لم يكن التردّد الدولي في التعاطي مع اجتياح حضرموت والمهرة تفصيلاً عابراً، ولا مجرّد بطء تقليدي في إنتاج المواقف، ففي الأيام الأولى التي أعقبت الاجتياح العسكري الذي نفذته قوات تابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، بدا المشهد الدولي مرتبكاً على نحو لافت، لا إدانة، ولا ضغط، ولا توصيف، في وقت كانت فيه قوات لا تتبع وزارة الدفاع تعتدي على وحدات من الجيش، وتفرض واقعاً جديداً بالقوة في واحدة من أكثر مناطق اليمن حساسية من حيث الجغرافيا والأمن الإقليمي.
ورغم أن اجتياح حضرموت والمهرة لم يكن مفاجئاً من حيث الهدف النهائي للمجلس الانتقالي، الذي يرى منذ سنوات أن مشروعه السياسي لا يمكن أن يتحقق من دون حضرموت بثقلها الجغرافي والاقتصادي، ولا يستقيم من دون المهرة بوصفها منفذاً وحدوداً وعمقاً إقليمياً، إلا أن التوقيت، والحجم، وطبيعة الرسائل المصاحبة دلّت جميعها على أن القرار لم يكن جنوبياً، بل جاء ضمن محاولة مدفوعة إماراتياً، ومعزّزة بتقاطع مصالح إسرائيلية غير معلنة، لإعادة فرض وقائع نفوذ جديدة في جنوب وشرق اليمن، واستخدامها كورقة ضغط إقليمي في لحظة شديدة الحساسية.
العنصر الإسرائيلي كان هو الفاعل في التململ الغربي الذي تزامن مع العملية، وتزامن مع اندفاعة في بعض وسائل الإعلام الغربية لـ"تطبيع" ما حدث عبر تبنّي رواية المجلس الانتقالي بشأن "محاربة الإرهاب" و"قطع طرق التهريب" عن الحوثيين، والذي شكّل مؤشراً مبكراً على أن ما جرى يتجاوز إطار تحرك محلي عابر، ويفتح الباب أمام قراءة أعمق لطبيعة التحرك وخلفياته الإقليمية والدولية.
وتتقاطع هذه الخلاصة مع ما ورد في تحليلات إسرائيلية نُشرت في صحف ومراكز بحث، اعتبرت أن سيطرة المجلس الانتقالي على حضرموت تمثل تحولاً مهماً في ميزان القوى داخل اليمن، من شأنه تقليص النفوذ السعودي في الجنوب، من دون أن يُحدث أثراً مباشراً على الحوثيين أو يغيّر معادلتهم العسكرية، فقد رأت "جيروزاليم بوست" أن الحوثيين لا يتأثرون عملياً بمن يواجهونه في الجنوب، سواء كانوا قوات مدعومة من الرياض أو أبوظبي أو تشكيلات محلية أخرى، وأن هذا التحول يضغط على السعودية أكثر مما يضعف الجماعة الحوثية نفسها.
حسابات إماراتية - إسرائيلية
ولم يكن التحرك في حضرموت والمهرة مجرد خطوة ميدانية معزولة، بل جزءاً من مقاربة أوسع لإعادة إدخال الإمارات في معادلة المسار السياسي اليمني الذي تجري ترتيباته في مسقط برعاية أممية من موقع الفاعل المؤثر، لا الطرف المتلقي لتفاهمات تُصاغ خارج نطاق نفوذها، ويتقاطع هذا المسار مع حسابات إسرائيلية ترى في أي ترتيبات باليمن عاملاً مؤثراً في معادلات البحر الأحمر وباب المندب، وبهذا تحول شرق البلاد، ولا سيما حضرموت والمهرة، إلى مساحة ضغط إقليمي تُستخدم لإعادة ترتيب الأدوار وتوازنات التأثير، لا مجرد ساحة نزاع محلي منفصلة عن السياق الأوسع.
ويكتسب توقيت التحرك الإماراتي دلالة إضافية عند ربطه بالسياق الإقليمي الأوسع، ولا سيما التطورات المتسارعة في السودان، إذ تشير تقديرات إلى أن زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة، وما تضمنته من نقاشات مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن ضرورة التدخل لوقف الحرب هناك، مثّلت عامل انزعاج واضح لأبوظبي، التي تُعد طرفاً إقليمياً ذا صلة مباشرة بتوازنات ذلك الصراع، في ظل علاقتها بقوات الدعم السريع، وهذا القلق لا يقتصر على الإمارات وحدها، بل يمتد إلى أطراف أخرى، في مقدمتها إسرائيل، التي تنظر إلى السودان بوصفه ساحة متقدمة في ترتيبات البحر الأحمر وأمن الملاحة، ومن هذا المنظور، فإن أي تحرك سعودي–أميركي يهدف إلى تقليص نفوذ حلفاء أبوظبي هناك يُقرأ كعامل ضغط إضافي على المتغيرات اللاحقة في الشرق اليمني.
هذا الدافع الإماراتي التقى مع مقاربات إسرائيلية واضحة تنظر إلى جنوب اليمن بوصفه جزءاً من معادلة أشمل تتعلق بأمن الملاحة الدولية وباب المندب وإعادة تشكيل خرائط النفوذ في البحر الأحمر وخليج عدن، وتُظهر مواد إسرائيلية حديثة، من بينها تقارير "تايمز أوف إسرائيل" ومعهد دراسات الأمن القومي، أن إسرائيل تنظر إلى الحوثيين باعتبارهم مرشحين للتحول إلى "حزب الله جديد" على الممرات التجارية، وأن مواجهة هذا الاحتمال تتطلب شراكات إقليمية جديدة، وتمركزاً متقدماً، وتفكيك مراكز النفوذ التقليدية لصالح كيانات أكثر هشاشة وقابلية للاختراق السياسي والأمني.
تقاطع مصالح
ولا يعني ذلك بالضرورة تطابقاً كاملاً في الأهداف بين أبوظبي وتل أبيب، بقدر ما يكشف عن تقاطع مصالح، في مقدمتها إضعاف النفوذ السعودي في مناطق استراتيجية، وفتح المجال أمام كيان جنوبي منفتح على التطبيع والانخراط في الاتفاقات الإبراهيمية، وهو ما عبّر عنه المجلس الانتقالي ورئيسه علناً في أكثر من خطاب ومقابلة، باعتبار أن "التطبيع خيار مطروح".
وقد انعكس هذا التقاطع بوضوح في الخطاب الإعلامي والسياسي الإسرائيلي، إذ لم تقتصر بعض التحليلات على انتقاد السعودية وتشددها في حضرموت، بل ذهبت إلى الدفاع الصريح عن "أحقية" المجلس الانتقالي في السيطرة على الجنوب، باعتبار ذلك خطوة تخدم ترتيبات أمنية أوسع في جنوب اليمن والبحر الأحمر.
ونشر الخبير الجيوسياسي الإسرائيلي المعروف آفي أفيدان تحليلاً تحدث فيه عن ما سماه "استراتيجية الكماشة" الإماراتية–الإسرائيلية في اليمن، واصفاً سيطرة المجلس الانتقالي على حضرموت بأنها جزء من هندسة إقليمية متكاملة تمتد من سقطرى إلى عدن ثم حضرموت، وتهدف إلى تأمين الموانئ وحقول النفط وخطوط التجارة المؤثرة على نسبة كبيرة من حركة الشحن العالمية، معتبراً أن هذا المسار لا يقوم على تدخل بري مباشر، بل على تمكين وكلاء محليين وهيمنة جوية وبحرية، مشيداً بتصريحات عيدروس الزبيدي في سبتمبر الماضي، بشأن استعداد "جنوب اليمن للانضمام إلى الاتفاقات الإبراهيمية".
ولم يتوقف الطرح الإسرائيلي عند حدود التحليل، بل شمل توصيات عملية، من بينها الدعوة إلى دعم المجلس الانتقالي بوصفه شريكاً محتملاً في مواجهة الحوثيين، واستغلال التعاون القائم بين إسرائيل والإمارات للوصول إلى جزيرة "زُقر" في البحر الأحمر لأغراض الاستطلاع، بذريعة تنفيذ عمليات ضد الحوثيين.
صومالي لاند ودلالات الاعتراف
الذروة في هذا المسار تمثلت في إعلان إسرائيل، في 26 ديسمبر 2025، الاعتراف الرسمي بـ"صوماليلاند" دولة مستقلة، هذه الخطوة، بتوقيتها وسياقها، لم تكن منفصلة عمّا يجري في اليمن، إذ ربطت تقارير دولية بين الاعتراف الإسرائيلي وصعود أهمية صوماليلاند بوصفها موقعاً استراتيجياً قريباً من اليمن وخليج عدن وباب المندب، وقاعدة محتملة "لمراقبة الحوثيين وتأمين خطوط الملاحة الدولية".
الاعتراف أيضاً حمل رسالة سياسية واضحة تقوم على تشجيع نماذج التفكيك والمسارات الانفصالية، وإيصال إشارة لكيانات محلية بأن خيار الانفصال قد يحظى بإسناد خارجي.
وقد قوبل الإعلان الإسرائيلي برفض واسع عربياً وأفريقياً ودولياً، تصدّرته الحكومة الصومالية، إلى جانب السعودية، ومفوضية الاتحاد الأفريقي، وجامعة الدول العربية، ومجلس التعاون الخليجي، ومصر وتركيا وفلسطين، ودول أخرى، كلها رأت في الخطوة سابقة خطيرة وانتهاكاً صريحاً لمبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. كما أبدت الولايات المتحدة تحفظاً واضحاً، مؤكدة أنها لا تعتزم الاعتراف بـ"صوماليلاند" في الوقت الراهن، في موقف عكس عزلة القرار الإسرائيلي واتساع دائرة الرفض له.
حضور إسرائيل في أزمة حضرموت قد نحتاج لفهمه أيضاً قراءة الطريقة التي واجهت بها السعودية محاولة تحويل المحافظة إلى ورقة إقليمية مفتوحة، فقد اختارت الرياض منذ اللحظة الأولى إدارة المشهد بوصفه قضية دولة تمس أمنها القومي ومنطق الشرعية الإقليمية والدولية، لا مجرد اشتباك نفوذ داخل التحالف، وكان المدخل الأول هو نزع الغطاء السياسي عن التحرك، وتوصيفه بوضوح كإجراء أحادي خارج التوافق الوطني.
التكتيك السعودي
وعملت الرياض على حماية مسار التهدئة وخارطة الطريق، عبر لقاءات مع المبعوث الأممي، وزيارات أممية إلى الرياض ومسقط، ورسالة من ولي العهد السعودي إلى سلطان عُمان، إلى جانب استمرار الترتيبات ثم انعقاد جولة مفاوضات يمنية بشأن ملف الأسرى، تكللت باتفاق مبدئي على الإفراج عن نحو 2900 محتجز من جانبي الحكومة والحوثيين.
وفي موازاة ذلك، تحركت المملكة لبناء مظلة دولية رافضة لفرض الأمر الواقع، فصدرت مواقف متقاربة في جوهرها تؤكد الالتزام بوحدة اليمن وسلامة أراضيه، وتحذّر من الإجراءات الأحادية، من مجلس الأمن الدولي، والاتحاد الأوروبي، وجامعة الدول العربية، إضافة إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا وسلطنة عُمان ومصر والأردن وتركيا وغيرها، وجميعها ثمّنت الجهود التي تقودها السعودية، بالتنسيق مع الحكومة اليمنية، لاحتواء التصعيد وخفض التوتر.
اعتمدت السعودية إدارة المشهد بوصفه مساراً دبلوماسياً قانونياً لا استعراضاً للقوة، مستندة إلى أدوات الدولة والشرعية الدولية عبر القنوات الرسمية، وعملت من داخل النظام الدولي وبالتنسيق مع الدول المؤثرة وجامعة الدول العربية والأمم المتحدة، ما منح موقفها وزناً سياسياً وقانونياً مستقراً، وجاء هدوء الخطاب السعودي وإيقاعه المحسوب تعبيراً عن مقاربة تراكمية هدفت إلى تثبيت منطق الدولة والحفاظ على الاستقرار، في مقابل تحركات غير مؤسسية وأساليب ضغط غير رسمية، أدت تدريجياً إلى تآكل الغطاء السياسي والقانوني للطرف الآخر.
وعندما بلغت هذه الجهود مداها، أصدرت الرياض بياناً شديد اللهجة أكدت فيه المؤكد منذ البداية، أن التحركات العسكرية للمجلس الانتقالي في حضرموت والمهرة جاءت بشكل أحادي ومن دون تنسيق مع مجلس القيادة الرئاسي أو التحالف، ووصفتها بأنها تصعيد غير مبرر أضر بمصالح الشعب اليمني والقضية الجنوبية وجهود التحالف، مشيرة إلى إرسالها فريق عسكري سعودي–إماراتي لترتيب عودة القوات إلى مواقعها السابقة وتسليم المعسكرات لقوات "درع الوطن" والسلطات المحلية تحت إشراف التحالف.
وفي اليوم التالي، رحّبت دولة الإمارات بالجهود السعودية لدعم الأمن والاستقرار في اليمن، مؤكدة التزامها بدعم كل ما يعزز الاستقرار والتنمية.
غير أن الرياض كانت تدرك أن نجاح الاحتواء السياسي لا يعني بالضرورة تراجع المجلس الانتقالي، الذي دفعته مكاسبه الميدانية إلى تصعيد سقف طموحاته ومحاولة تثبيت ما حققه على الأرض، وفي هذا السياق، سعى إلى فتح قنوات اتصال مباشرة مع إسرائيل، وتلقّى إشارات دعم عبر الخطاب الإعلامي الإسرائيلي وملف "صوماليلاند"، الأمر الذي جعله أقل ميلاً للعودة إلى ما قبل الاجتياح من دون ممارسة ضغط فعلي يفرض عليه ذلك.
تحول المسار السعودي
من هنا، انتقلت السعودية من مرحلة الاحتواء السياسي إلى مرحلة "الردع المحدود"، فجاءت الغارات الجوية التحذيرية صباح الجمعة، في أداة ضبط محسوبة، ورسالة واضحة بأن فرض الأمر الواقع له سقف، وأن التمدد العسكري لن يُسمح له بالاستمرار.
وعندما تبيّن أن التحذير وحده لا يكفي، انتقل الملف إلى مستوى الإلزام عبر الشرعية، حيث اجتمع مجلس الدفاع الوطني، وتقدّم رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد العليمي بطلب رسمي إلى التحالف للتدخل، في خطوة مثّلت تتويجاً لمسار متدرج بدأ بنزع الغطاء السياسي، ثم بناء مظلة دولية، فـردع محدود، وصولاً إلى إلزام رسمي.
في المحصلة، تكشف أزمة حضرموت عن صراع يتجاوز حدوده المحلية، ويتقاطع فيه الإقليمي بالدولي، والنفوذ بالملاحة، والانفصال بإعادة تشكيل التوازنات، كما تُظهر أن إسرائيل حضرت في المشهد بوصفها فاعلاً قارئاً ومؤثراً، ساعياً إلى توظيفه ضمن مقاربة أوسع تتعلق بباب المندب وأمن البحر الأحمر.
وحتى الآن، ما يزال المجلس الانتقالي يرفض الانسحاب الكامل من حضرموت والمهرة، فيما يستمر الضغط السعودي بوتيرة متصاعدة، وسط ترقب لما ستؤول إليه الأمور بعد طلب التدخل الرسمي، وما إذا كانت الرياض ستنتقل من أدوات الضغط السياسية إلى أدوات ضغط ميدانية أوسع في المرحلة المقبلة
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news