بين مطرقة الحرب وسندان الإهمال والتشويه المنظّم، تواجه المواقع الأثرية اليمنية المدرجة على قائمة التراث العالمي تحديات وجودية غير مسبوقة في عموم مناطق اليمن، سواء في مناطق سيطرة الانقلابيين الحوثيين أو مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها.
فمن تشوه المعالم التاريخية في صنعاء القديمة، بما تحمله من قيمة تاريخية وإنسانية استثنائية، إلى العبث والتهديدات البيئية في سقطرى، وصولًا إلى الممارسات غير قانونية أو غياب الحماية المؤسسية الفاعلة لمدن حضرموت التاريخية وآثار مملكة سبأ في مأرب.
وتشير تقارير وتحذيرات محلية ودولية إلى أن هذه المواقع، المصنفة كممتلكات تراثية عالمية، تواجه انتهاكات عديدة في المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثي المصنفة عالميًا في قوائم الإرهاب، وكذلك في مناطق نفوذ المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيًا، الأمر الذي يهدد بفقدان جزء لا يُعوّض من ذاكرة اليمن وهويته الحضارية، ويضع هذه المواقع أمام خطر الخروج من سجل التراث الإنساني المحمي دوليًا.
وللوقوف على حجم المخاطر المحدقة بالتراث اليمني، يفتح “برَّان برس” هذا الملف في حوار خاص مع السفير الدكتور محمد جميح، مندوب اليمن الدائم لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو"، لمناقشة واقع المواقع الأثرية، وآليات الحماية الدولية، ومصير المشاريع المتعثرة، وكذا الرسائل الموجهة للأطراف المحلية والمجتمع الدولي لإنقاذ ما تبقى من كنوز اليمن الحضارية.
نص الحوار:
** كيف تقيّمون وضع مواقع التراث اليمني المدرجة على قائمة التراث العالمي في ظل الصراع؟
وضع التراث الثقافي العالمي في اليمن في زمن الحرب لا يخفى على الجميع. هناك الكثير من الإهمال وهناك الكثير من المواقع التي تعرضت للضرر ولأضرار كبيرة في بعضها بسبب الحرب، وبسبب مخرجات الحرب ونتائجها، فالإهمال إحدى نتائج الحرب، وكما تعرضت مواقع للإهمال قبل الحرب.
لا توجد مواقع مسجلة على قائمة التراث العالمي تتعرض للإهمال، كما هو حال مواقع التراث العالمي في اليمن، للأسف الشديد.
وضع صنعاء معروف، شعارات الحوثيين تلطخ وتشوه انسجامها، ومواد البناء الحديثة المستعملة في ترميمات بعض منازلها، كل ذلك مخالف لاتفاقية اليونسكو 1972. وزبيد وشبام حضرموت ليست بأفضل حالاً من صنعاء. أما سقطرى، فلكثرة التقارير عن المخالفات أرسلت اليونسكو بعثة رقابة دولية للتحري.
وآثار مملكة سبأ في مأرب التي أدرجت على قائمة اليونسكو للتراث العالمي عام 2023، هذه الآثار مفتوحة، يدخلها العابثون دون رقابة أو محاسبة. وإدراج المواقع على قائمة اليونسكو للتراث العالمي يحتم حماية هذه الآثار.
هناك مخاطر التمدد العمراني في بعض المناطق للمواقع الأثرية ومواقع التراث الطبيعي كما في سقطرى، هناك مخاطر عدم الوعي المجتمعي، حيث تبنى أحياناً أو تدخل مواد حديثة مخالفة في ترميمات بعض المباني في صنعاء وغيرها.
ويوجد العديد من المخاطر التي ينبغي أن نواجهها جميعاً بجهود الدولة والسلطات المحلية ومنظمات المجتمع المدني والإعلام ورفع مستوى الوعي المجتمعي بقيمة وأهمية تراث البلاد.
** ما طبيعة الانتهاكات التي طالت التراث في صنعاء القديمة وما مدى مسؤولية الحوثيين عنها؟
وضع صنعاء القديمة كما هو معروف وضع مأساوي. الحوثيون- كما أشرت سابقاً- حاولوا على مدى سنوات طويلة إحداث تغيير في بنية المدينة، على سبيل المثال أكبر مشروع كان يراد له أن يغير أقطاب الحضارة للمدينة هو مشروع ما يسمونه “ساحة الإمام علي”، وكانت تهدف إلى هدم أربعة أسواق تاريخية في وسط صنعاء القديمة من أجل بناء مزار ديني يكرس ما يسمونه بـ“الهوية الإيمانية” وهي هوية طائفية، ويدر عليهم الكثير من الأموال، يشجعون الناس على هذا المزار على اعتبار أن علي بن أبي طالب جلس على هذا المكان، وهي حجة لهدم هذه الأسواق.
لكن نجحت الجهود والضغوط الإعلامية وجهود اليونسكو كذلك بوقف هذا المشروع، لا نقول إلغاء المشروع، فالحوثيون لا يلغون خططهم لكنهم يؤجلونها، ويختارون التوقيت.
كذلك كانوا يريدون بناء ما يسمى “بوابة شعوب” أو باب شعوب، فأنت لا تستطيع أن تبني أثراً اندثر تمامًا، أنت يمكنك أن ترمم الأثر إذا كانت آثاره لا تزال موجودة، ولذلك يسمى أثراً، لكن بوابة شعوب انتهت تماماً لم تعد قائمة، وبالتالي عندما تبنيها من جديد فهذا يعني أنك تبنيها بناء جديداً في حرم وموقع تراث عالمي وهذا يخل بمعايير وضع هذا الموقع المدرج على قائمة التراث العالمي، ناهيك عن أن الحوثيين لطخوا المباني والأسوار وبوابة “باب اليمن” في صنعاء القديمة بالصور وبالألوان والشعارات، وكل ما يمكن أي يؤدي إلى التشوش وتشويه بصري يخالف بشكل كبير طراز الألوان المستخدمة في بناء صنعاء القديمة، وغير ذلك.
يوجد الكثير من أصحاب البيوت، وكما تعلم أن صنعاء القديمة هي منازل مملوكة لأسر على مدى آلاف السنين، فبعض الأسر تدخل مواد حديثة في إعادة الترميم، وبعض الأسر حولت الدكاكين الأرضية للدور الأرضي للمبنى في محاولة للاستفادة من المساحة فقسمت المكان إلى نصفين واستخدمت "البلوك والاسمنت" في هذا البناء، وهذا طبعا من العبث بالتراث على مستوى الفرد.
طبعًا هناك مخاطر أخرى تتعرض لها المواقع الأخرى بفعل التغير المناخي والأمطار الشديدة التي هطلت في اليمن خلال السنوات الأخيرة، أدت لانهيار بعض المباني والأسوار سواء في صنعاء أو في زبيد، كما تضررت بعض مباني مدينة شبام حضرموت، بسبب العوامل الطبيعية.
لذلك جميع مواقع تراثنا العالمي هي على قائمة التراث العالمي المعرض للخطر، لدينا سقطرى كتراث طبيعي ليست معرضة للخطر، لكن أرسلت لجنة خلال العام الحالي لمراقبة ما يجري هناك، ونتمنى ألا يخرج تقريرها بتوصية أن توضع سقطرى على قائمة التراث العالمي المعرض للخطر.
** ما حقيقة ما يجري من عبث أو تغييرات في مواقع تراثية بحضرموت على يد الانتقالي الجنوبي؟
في حضرموت (شرقي اليمن) هناك مدينة “شبام حضرموت” هي موقع تراث عالمي، ومؤخراً بدأت تظهر بعض الشعارات والصور والملصقات ورسم لأعلام ما يسمى بدولة “الجنوب” كما هو الحال في صنعاء.
حذرنا ونبهنا من خطورة ذلك وأنه يخالف المعايير ويخالف القيمة العالمية الاستثنائية التي على أساسها وضعت شبام حضرموت على قائمة التراث الثقافي العالمي، وهذه السياسات الخائطة التي هي من فعل الإنسان ينبغي أن تتغير ونغيرها بنشر الوعي المجتمعي ونشر الوعي الأمني، وعي التراث لدى رجال الأمن والساسة.
يجب أن يدركوا أن المماحكات والمناكفات السياسية لا ينبغي أن يكون محلها على مواقع التراث العالمي، لأنها مسماة “مواقع تراث ثقافي عالمي” بمعنى أنها مواقع تراث وطنية لكنها أصبحت مواقع تراث عالمية، وبالتالي فإن العالم ممثل بـ“اليونسكو” مسؤول عنها، وهذا ينبغي أن يعرفه الجميع.
** ما طبيعة الانتهاكات التي طالت التراث العالمي في جزيرة سقطرى؟
سقطرى تتعرض للكثير من الانتهاكات المخالفة لطبيعة الحال، هناك تجريف للثروة السمكية والأحياء المائية بشكل كبير مخالف للمعايير، لأنك لا تستطيع أن تصطاد ما تشاء في موقع التراث الطبيعي. هناك زحف حضري وعمراني نحو الغابات التي هي أصل وقلب هذا الموقع من التراث الطبيعي العالمي.
تشييد منشآت على الساحل مخالفة ومبنية في أماكن يحظر البناء فيها، كما دخلت بعض أشجار النخيل قبل سنوات وأدخلت معها نوعاً من السوس أو الحشرات الصغيرة التي انتشرت في الجزيرة، لكن تم مكافحة هذه الآفة.
مشكلة جنوح السفن، فبعض السفن جنحت وتسرب محتواها من النفط في سواحل سقطرى، وهذا أدى إلى نفوق بعض الأحياء البحرية، ولكن تم مواجهة هذه المشكلة.
** هل توجد آليات ضغط أو مساءلة دولية بحق الأطراف المتورطة؟
أنا أعتقد أن رفع الوعي لدى الناس بشكل عام من كافة المستويات، مهم جدًا، الوعي المجتمعي سواء الوعي الشعبي أو الوعي الإداري أو السياسي، الوعي الأمني بأهمية هذه المواقع ربما يحد من هذه الانتهاكات.
هناك جهود ومشروع مقدم من الاتحاد الأوروبي لدعم قطاع التراث في اليمن واسمه “النقد مقابل العمل” واستمر لسنوات وهو عبارة عن ترميمات في مواقع التراث العالمي في اليمن، بصنعاء وفي زبيد وشبام حضرموت وكذلك في عدن، وتم تمديد هذا المشروع ليشمل مواطن أخرى غير مواقع التراث العالمي الأربعة المذكورة.
للأسف الشديد، هذا المشروع تعرض للعرقلة عندما سحبت “اليونسكو” كل أعمالها من مناطق سيطرة الحوثيين، بسبب اعتقال الحوثيين للعشرات من موظفي الأمم المتحدة بينهم أربعة من الموظفين الذين يعملون مع “اليونسكو”. وبعد سنوات من المطالبة بالإفراج عنهم لم تستجب سلطات جماعة الحوثي، الأمر الذي أدى إلى سحب كل مشاريع اليونسكو من صنعاء وزبيد ومناطق شمال اليمن الواقعة تحت سيطرة مليشيا الحوثي.
** ما الذي قامت به اليونسكو والحكومة اليمنية إزاء هذه الانتهاكات؟
اليونسكو لديها برنامج التدخل الطارئ نتيجة للأمطار، كنا نقدم لهذا البرنامج طلبا ببعض الدعم، فيكون هناك بعض الدعم اليسير الذي بطبيعة الحال الاحتياج أكبر بكثير بما لا مجال للمقارنة بين الاحتياج وبين ما يقدم، لكن في الأخير هذه منظمة دولية تبذل ما لديها من جهد ومن مال، ويبقى العبء الأكبر على الحكومة اليمنية وعلى السلطات المحلية في حماية هذا التراث.
اليونسكو مؤخراً أضافت سبعة مواقع تحت الحماية المعززة (أربعة مواقع في تعز، موقعان بحضرموت، موقع واحد في شبوة) وهذا يتيح مزيداً من الدعم لهذه المواقع.
استطعنا أيضًا إضافة 26 موقعًا على قائمة التراث العالمي التمهيدي من أجل العمل على نقلها مستقبلاً إلى قائمة التراث العالمي الرئيسية.
هناك برامج توعوية تنفذ بين الحين والآخر بأهمية التراث والحفاظ عليه، ودورات تدريبية لخبراء التراث اليمني من أجل تدريبهم على كيفية إعداد ملفات التراث العالمي، وقد عملنا على ملف مأرب خلال السنوات الماضية، وعملنا على إدراج 26 موقعاً عن طريق خبراء يمنيين دربتهم اليونسكو.
** ما رسالتكم للمجتمع الدولي وللأطراف المسيطرة لحماية التراث اليمني؟
بالنسبة للمجتمع الدولي ممثلاً باليونسكو الرسالة واضحة أن مواقع التراث العالمي في اليمن المصنفة على قائمة الخطر تحتاج إلى مزيد من الرعاية والحماية والعناية من أجل إخراجها من قوائم الخطر، وما يمر به اليمن من صراع وما تمر به مواقع التراث العالمي نتيجة لهذا الصراع من إهمال وتدمير ونهب لتراثنا اليمني وتهريبه للخارج وبيعه في المزادات والأسواق العالمية، كل ذلك يستدعي جهوداً مضاعفة من اليونسكو والمجتمع الدولي من أجل حماية هذا التراث.
بالنسبة للحكومة اليمنية وبشأن المواقع الواقعة تحت سيطرتها، فإنها مسؤولة مسؤولية كاملة عن طريق السطات المحلية في حماية هذا التراث.
نحن دعونا من قبل لتدريب شرطة آثار، كما في كثير من الدول هناك شرطة آثار مدربة ومؤهلة لحماية مواقع التراث العالمي والمواقع التراثية بشكل عام، واليونسكو مستعدة لتدريب هذه الشرطة والمساعدة في بناء هذا الجهاز بالتعاون مع وزارتي الداخلية والثقافة ومع الهيئة العامة للآثار العامة والمتاحف، والهيئة العامة للمدن التاريخية.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news