يبرز محيي الدين جرمة كصوتٍ شعريٍّ يمنيّ يعيد للألم لغته، وللشعر جدواه في التعبير عن الأوطان المتروكة في مهبّ العدم. في ديوانه “هم احتطبوا دمي” (2021)، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في ديوانه ” يُقدِّم محيي الدين تجربةً شعريةً فريدةً تعكس واقع اليمن المعاصر من خلال تناولها موضوعات الألم والخراب بطريقة تعبيريةٍ عميقة.
يتقدّم جرمة بوصفه شاهداً لا يكتفي بالرثاء حيث يُظهر قدرةً على تحويل المعاناة إلى لغةٍ شعريةٍ متجددة فيصبح الشعر في ديوان “هم احتطبوا دمي” عبوراً إلى عمق المجاز و وسيلةً للتعبير عن الهوية والوجود، لا مجرد تعبير لغوي عن حالة شخصٍ أو أناسٍ مُعذبين، إنه تعبير عن شعبٍ مُعذب لم يتوقف عبر التاريخ عن المرور بأزماتٍ شديدة أو يأخذ فرصة مناسبة للتنفس, لقد قام بتأثيث الخراب بنصّ شعري يليقُ بالرمزية اليمنية.
يُعتبر الديوان نسيجاً ثيماتياً مُضمخاً بالحرب، الفقد، الإغتراب، واستدعاء اليمن كذاكرة مكانية ليس إلا إثباتاً منه أنها فضاءً غارقاً في التحلل والخذلان, العنوان “اهم احتطبوا دمي” يقوم على تواطئ دلالي بين احتطاب الجسد كفعل مادي عنيف و الرمزية التي يُمثلها الدم بوصفه علامة على الهوية والحياة، فيغدو الدم مجازاً للوطن، والقصيدة شرفة يُطل منها شاعرٌ يرى في ذاته تمثيلاً لشعب قُدر له أن يُذبح على امتداد التاريخ باسم الصمت.
المعجم الشعري لـ جرمة متخم بمفردات مثل “الريح”، “الظل”، “الطين”، “الرماد”، و”الماء”، وهي ليست مجرد عناصر طبيعية تناقلتها الحضارة كـ عناصر أولى للحياة، بل علامات رمزية تشير إلى السلب والتشظي، وإلى الوجود الذي أُفرغ من معناه، لك أن تقرأ قوله : «أريد أن أبقى صغيرًا / مثل أعمار الزهور»، لترى فيه رغبةً وجودية في البقاء خارج منظومة التهشيم القسر المفروضة على الجغرافيا من كل الجهات.
ستجدُ في أسلوب جرمة أنه قائمٌ على المجاز الكثيف والانزياح الدلالي، إنه لا يرسم الواقع، بل يقوم بتكسيره في صور شعرية أقرب ما تكون إلى تقنية “الكولاج”، حيث تتجاور الأنقاض مع الحلم، ستجدُ أن جرمة لا يدوّن الأحداث بل يتأملها في مرايا اللغة، ويجعلُ منها صورة تجسّد كيف يتحوّل الجرح إلى لغة، واللغة إلى أفق للسمو عن واقع لا يرتضيه.
البنية الرمزية في الديوان، توظف التاريخ والأسطورة كبنية قابلة للتفكيك لا مادة مرجعية، فجرمة يستحضر رموزاً مثل “مأرب”، “صرواح”، و”عرش بلقيس” في مقاطع متعددة لا بوصفها علامات على مجد ماضٍ لتاريخ لم تُكشف أسراره بعد، بل كدوال على فقدٍ راهن مُتجدد ومُستمر منذ بزوغ حضارتنا الأول وانطفائها حتى اليوم، فيقول: «ولي هدهد / وطباشير من ذهب»، في إحالة مزدوجة إلى الهدهد – حامل الرسالة في الأسطورة – وإلى الطباشير – أداة المحو والكتابة معًا، إنه يُحول الأسطورة إلى حطام، ويُقتل الرمز نفسه بطريقة سيميائية.
إن اللغة المستخدمة في الديوان تمارس حوارًا داخليًا بين الأنا والمكان «أنا حجر اللغات / على سجية ما أريد» فتتجسد الذات كركام لغوي يُحاول حماية نفسه من الإنقراض لا مركزاً للمعنى، إنها ليست وسيلة للتعبير بل حقلاً تجريبياً وفضاءً للتعويض الرمزي عن الغياب.
ستقرأ في ديوان «هم احتطبوا دمي» أيضاً قصائد تتوسل تقنية التكرار لتأكيد الفعل الرمزي للسلب «هم الألى احتطبوا النهار بليله / لم يتركوا للظل من عنب»، و كانه يُشير إلى اغتيال الزمن والهوية معًا، تقرأ أيضاً «كالطين لم أبلغ دمشق»، كعبارة تختزل الانهزام المكاني والوجودي للدرجة التي يُحول فيها جرمة “دمشق” إلى حلم مؤجل أو مستحيل، أما في قصيدة “أحاكي غيومًا تشردني” فإنه يكتبُ التجربة من قلب العزلة: «أطفو على وجعي / بذراعَيّ أرفع نجمة ماء» ليصنع بهذه العبارة نوعاً من التأمل الصوفي المشحون بالمأساة، فالشاعر لا يذوب في حزنه، بل يسمو عبره، كما تفعل الذات التي وُجدت كي تشهد لا كي تَشقى فقط.
ديوان “هم احتطبوا دمي” يشكّل تجربة متفردة، تنأى عن التقريرية والخطابية، وتستعيض عنهما بلغة مُتهشمة مشبعة بالمجاز، وصورٍ تُمزج فيها الذات بالجغرافيا، والرمز بالمادي، والحلم بالحطام.
لا يُبشّر جرمة بالخلاص، ولكنه يُظهر كيف يمكن للغة أن تكون مأوى حين يصبح الواقع غير صالح للسكن وهذا ما يجعل الديوان ناجحاً في أن يكون فعلاً مقاوماً، يستعير من الجراح ما يكفي ليعيد تشكيل خطاب شعري لا يحتكم فقط إلى جماليات اللغة، بل إلى ضرورات النجاة، في هذا المعنى، يُثبِت محيي الدين جرمة أن الشعر لا يزال قادرًا على أن يكون “فعل بقاء”، وأن اللغة، حتى لو كانت ظلاً، لا تزال قادرة على حمل المعنى في زمن يسعى لتفريغ كل شيء من جوهره.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news