كتب :
عبدالملك المخلافي
كنتُ طوال مسيرتي السياسية، ومنذ أن تتلمذتُ في المدرسة القومية العربية التي أعتز بالانتماء إليها، مؤمنًا بأنّ أيّ دور لنا في وحدة الأمة العربية لن يكون مقبولًا ما لم نكن — نحن اليمنيين — قادرين على الإسهام في توحيد بلادنا والدفاع عن وحدتها.
هذا ما تعلّمته من النظام الأساسي للتنظيم الناصري الذي أقسمتُ على الالتزام به في منتصف السبعينات قبل خمسين عامًا من الآن، وما ظلّ مبدأً راسخًا في وعيي السياسي حتى اليوم.
وتعلّمتُ — إلى جانب ذلك — من دراستي للقانون ومن حبي له، ومن دراستي للسياسة وعملي في مجالها طوال نصف قرن، ومن عملي في مجال الدبلوماسية والسياسة الخارجية والقانون الدولي كوزير للخارجية، تعلّمتُ جوهر الدولة ومعنى الشرعية، وكيف تُبنى المؤسسات وكيف تنهار، والفارق بين السلطة والقانون، وبين النص وروح النص، وبين الحقوق التي تُكتسب بنضال الجماعات والحقوق التي يولد بها الإنسان ولا يجوز انتهاكها تحت أي ظرف.
ومن التجربة والوعي معًا أدركتُ أن الدولة لا تُبنى بالشعارات، وأن العدالة ليست رغبة بل نظام وإجراءات وضمانات، وأن شرعية الحكم تقوم على إرادة الناس واحترام الدستور، لا على الغلبة والقهر. كما تعلّمتُ أن الحوار هو أعلى درجات السياسة، وأن القوة — حين تنفلت — تهدم الجميع، وأن سيادة الدول ووحدة إقليمها ليست تفصيلًا سياسيًا بل أساس استقرار النظام الدولي، ولا يجوز تجاوزها خارج الدستور والشرعية والتوافق الوطني.
وحياتي — بكل ما فيها — كانت وما تزال مكرّسة لوطني اليمن، وللجمهورية والمبادئ التي ذكرتها هنا: لحرية اليمنيين وتقدّمهم ووحدتهم، وللعروبة وفلسطين، ولمواجهة الظلم والعنصرية والصهيونية والاستعمار. وإن أخفقتُ في جوانب، فذلك مما يعتري الجهد الإنساني مهما خلص؛ وإن حققتُ ما استطعت، فذلك هدفي وواجبي.
ومن هذا الوعي نشأت مواقفي العملية. فقد وقفتُ ضد حرب 1994 الظالمة وما ترتّب عليها من إقصاء ومظالم، وكنتُ ضد كل الممارسات التي سبقت الحرب وخالفت اتفاق الوحدة وتطلعات اليمنيين لوحدة عادلة. وقد عبّرتُ عن ذلك في استقالتي المكتوبة والمنشورة من اللجنة العليا للانتخابات يوم إعلان النتائج، حين قلتُ بوضوح إنّ الانتخابات كانت تجسيدًا للتشطير لا للوحدة، وللقوة لا للديمقراطية.
ورفضتُ الإقصاء قبل الحرب وبعدها، كما رفضتُ أساليب الفيد والنهب أين كان الفاعل وأين كان الممارس ضده، لأنّ هذه الممارسات لا تبني دولة ولا تصنع عدالة. وساندتُ الحراك الجنوبي منذ بداياته، وشاركتُ في فعالياته الأولى في حضرموت والضالع، ودافعتُ عن حقوق الجنوبيين لأنهم أهلي في الجذور والنسب والمعيشة والمصاهرة.
وكنتُ ضد حرب 2015 التي فجّرها الحوثي على اليمن كله، وعلى الجنوب خاصة، ورفضتُ انقلابه، ولا أزال أناضل من أجل استعادة الدولة. وشاركتُ في كل الحوارات وجهود الوساطة ووقف إطلاق النار، لأنني لم أؤمن يومًا بأن العنف خيار سياسي أو أن الحرب طريق لبناء وطن.
وفي إطار التنظيم الناصري سعيتُ لإطلاق حوار بين أطراف الائتلاف الحاكم قبل حرب 1994، وهو ما دفع الصحفي الكبير، الفقيد الدكتور عبدالعزيز السقاف، رئيس تحرير “يمن تايمز”، لأن يسألني في مقابلة أجراها معي ونشرها بالإنجليزية، ونقلتها “الوحدوي” مترجمة:
“لماذا تسعون للتوفيق بين أحزاب السلطة وأنتم معارضة؟ لماذا لا تدعونهم يختلفون لتكسبوا أنتم في المعارضة؟”
وكان جوابي الذي اتخذته الصحيفتان عنوانًا:
«لا نريد أن نكسب موقفًا ضد السلطة إذا كنا سنخسر وطنًا.»
وفي عام 1999، التقيتُ — ومعي عدد من قادة الأحزاب ومنهم الصديق محمد غالب أحمد، القيادي الاشتراكي — بممثلين عن الحزب الكيبيكي (الانفصالي) في البرلمان الكندي، عقب استفتاء الانفصال الذي خسر فيه الانفصاليون بفارق نصف في المئة (0.5%). وحين سألناهم: «ما خطوتكم التالية؟» قالوا:
«نحترم إرادة الشعب، وسنناضل من داخل البرلمان الكندي ومع شعبنا من أجل الانفصال، ومن أجل أن نحصل في التصويت القادم على الأغلبية التي تحقق هدفنا.»
فقلنا — بحسرة —:
من أين لنا حكومة رشيدة كالحكومة الكندية؟ ومن أين لنا، بالمقابل، حزب أو أحزاب انفصالية كحزب PQ الكيبيكي الانفصالي؟
وهكذا بقيت قناعتي ثابتة: حق الجماعات في التطلعات مشروع، لكن استخدام العنف لتحقيقها باطل. ومثلما رفضنا الوحدة بالقوة، نرفض الانفصال بالقوة؛ فالقوة لا تقيم عدلًا ولا تبني وطنًا.
وجمعتني علاقات حوار واحترام مع كل الأطراف السياسية — ولا تزال — بما في ذلك المجلس الانتقالي، بلا عداوة ولا قطيعة ما دام الحوار ممكنًا. أمّا الحوثي، فبعد خروجه على نتائج الحوار الوطني وبدء حربه وانقلابه على الدولة، فقد أعلنتُ موقفي بوضوح — في لجنة الضمانات وفي صعدة — وآخرها في التصريح الذي أدليت به نهاية أغسطس 2014، حمّلتُه فيه مسؤولية إنهاء الحوار والتصعيد.
ولم يكن الطريق سهلًا. فقد دفعتُ ثمن مواقفي قبل الوحدة وبعدها، وحتى اليوم: سجنًا ومطاردة وتشريدًا، وتعرضًا للنهب والاستيلاء على ممتلكاتي ووثائقي أكثر من مرة. وتعرّضتُ للاتهامات والإشاعات، وكان يُنسب موقفي — في كل مرحلة — إلى طرف يختلف عن الذي قيل سابقًا إنني محسوب عليه. لكنني كنت دائمًا حيث أرى الصواب، منسجمًا مع مبادئي ومبادئ التنظيم السياسي الذي أنتمي إليه، لا أبالي بمن يغضب أو يرضى، وبمن يستفيد أو يتضرر.
أكتبُ هذا مضطرًا للرد على ما قيل علنًا وبالخاص، وعبر وسائل الاتصال بما في ذلك المؤيد والناصح والمشفق والمحذّر، أما الشاتم والمتوعّد والمهدِّد فلا يهمني أصحابه. وأكتب ما أكتب ليكون مفتاحًا لفهم مواقفي الحالية وجوابا لمن سالني لماذا دائما تتحدث والأخرين ساكتين أقول له” لا استوحش طريق الحق لقلة سالكيه”.
تعليقات الفيس بوك
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news