مصر .. الوطن الذي أعاد لليمني ملامحه المبعثرة
قبل 2 دقيقة
في مساءٍ هادئ من أمسيات شارع فيصل بالقاهرة، وبين أزقته وشوارعه المتفرعة التي تكتظ بالناس والسيارات، وترتفع ضوضاء المدينة من الهمس، تشعر وكأن مصر تتّسع قليلًا.. تتّسع لبلدٍ كاملٍ خرج من قلب الجغرافيا ليستقر في قلب الغربة.
تتأمل الوجوه اليمنية العابرة أمامك؛ ملامح يعرف بعضها بعضًا دون مقدمة.
وجوهٌ أنهكتها السنوات، تحمل تعبًا أعمق من السفر نفسه، وتخفي تحت العينين حنينًا لا يشفى، وغيظًا متراكمًا على وطنٍ ضاع بأيدي أبنائه قبل أن تضيّعه الحرب.
تُطِل من الشرفة أو تسير بين الناس، حتى تتقاطع الوجوه أمامك، مألوفة حدّ الوجع.. وجوه مرّت عليها الحياة مرورًا ثقيلاً، تعبٌ لا تخفيه الملامح، حتى أولئك الذين يمتلكون المال لا يستطيعون إخفاء حنينهم وحرقتهم على وطنهم الضائع.
ومع ذلك، تحديدًا هنا، في مصر، لا يحتاج اليمني لوقتٍ كي يستعيد طقوسه الأولى؛ يكفي أن يسمع لهجة، أو يشم رائحة بُن، أو يلمح ابتسامة مألوفة، فيتساقط البعد وتقترب الذاكرة، وكأنك لست في القاهرة بل في شارع التحرير بصنعاء، أو مقهى الشجرة بعدن، أو سوق المركزي بتعز، أو زقاق قديم في الحديدة، أو حتى قرب بحر المكلا، أو وادي حضرموت في عزّ الهدوء.
لقد اجتمع اليمن في مصر كما لم يجتمع يومًا في اليمن نفسه منذ العام 2011م.
فصنعاء تحضر بوقارها المعهود؛ بعقل أهلها ورزانة تصرفهم، وبظلّ تاريخٍ لا يزال يقف خلف كل كلمة ينطقونها.
وعدن تأتي بضحكاتها الباسمة، ببحرها المفتوح، وبمزاج مدينةٍ علّمها البحر كيف تحتمل الناس جميعًا.
وتعز تدخل المشهد بفصاحة أبنائها، بحيوية المثقف العامل، بإصرارٍ يصنع من المستحيل عادة يومية.
والحديدة، البسيطة العذبة، تأتي بنعومة لهجتها، وبقلوبٍ دافئة رغم قسوة الفقر والملح.
ثم تحضر حضرموت؛ سكينةٌ متينة، اتزان في الموقف، وأخلاقٌ تشبه تاريخ تجارتها الممتد.
وتظهر شبوة بصلابتها الجبلية؛ رجالٌ يشبهون تضاريسهم القاسية، ثابتون في حزنهم وفرحهم معًا.
ومأرب تضع بصمتها بقيم الفزعة والشهامة والانتماء؛ رجالٌ لا يغلقون أبوابهم أمام غريب.
وذمار، بخفتها ونكاتها الحاضرة، تجرّد الغربة من عبوسها لحظةً بعد لحظة.
وتأتي عمران بروح القبيلة، وحميّة الموقف، والوفاء الذي لا يُقاس بالكلمات.
والضالع تحضر بعمق شخصيتها، صلابة، شدة، وإرادة لا تقبل الالتواء.
ولحج تزرع في المكان رائحة الفل الحُسيني، ولهجة قريبة من القلب.
وتدخل أبين بخيراتها وسخاء أهلها، وطباعٍ ودودة كأرضها.
وصعدة تأتي بجبالها الشامخة، ورجالها الذين اعتادوا الوقوف حيث يسقط الآخرون.
والجوف تفرض حضورها بامتداد الصحراء في طبع أهلها؛ صبر، وجلَد، وشدة عند اللزوم.
أما إب، فهي النسيم الأخضر، وحديثٌ يمشي على مهل.
وأما ريمة فتدخل بموسيقى جبالها وهدوء لهجة أهلها، كقصيدةٍ تُتلى بلا استعجال.
المحويت تحضر ببساطتها وجمالها الهادئ.
والبيضاء تفرض نفسها بنبل رجالها وبياض نواياهم.
وحجة تأتي بالصبر الذي تعلمته من جبالها الصعبة.
ثم المهرة التي تشبه البحر الذي يجاورها؛ لطافة وانسياب.
وسقطرى، الحكاية النادرة، تدخل بملامح ناسها الذين يبدون كأنهم قادمون من جزيرة لا تزال في طور الحلم.
إنّ اجتماع اليمنيين في مصر ليس مجرد تواجد بشري؛ إنه إعادة تشكيل للوطن نفسه، لكن خارج حدوده.
فالمشهد هنا لا يخضع للسياسة، بل للإنسان..
لا يتشظى كما في الداخل، بل يتماسَك، يعيد ترتيب شظاياه، ويجمّع صوته الذي فقده منذ زمن طويل.
في مصر، يتذكر اليمني أنه ليس فردًا تائهاً، بل جزءًا من فسيفساء واسعة، غنية، ومتنوعة، وإن كانت مجروحة.
وأن اليمن — برغم كل ما حدث — لا يزال قادرًا على النهوض في وجه واحد، أو لهجة واحدة، أو ضحكة تُقال على استحياء في مقهى مزدحم.
وهكذا، لم يجتمع اليمنيون في وطنهم كما اجتمعوا هنا، لكنهم — في قلب مصر — أعادوا بناء وطنهم بذاكرتهم، بقلوبهم، بصداقتهم، وبإصرارهم على أن اليمن، لا يزال حيًا.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news