بشرى العامري:
وأنا أتابع احتفال جمهورية مصر العظيمة بافتتاح المتحف المصري الكبير، شعرت أنني أمام مشهد استثنائي يلخص كيف يمكن لشعب أن ينهض من بين صفحات التاريخ ليصنع منه حاضراً متألقاً ومستقبلاً يليق بعظمة ماضيه. ذلك الصرح الحضاري المهيب، الذي جُمعت فيه نفائس الحضارة المصرية القديمة على مدى سنوات طويلة من العمل الدؤوب.
لم يكن مجرد متحف؛ بل شهادة حية على أن الأمم العظيمة لا تموت، بل تجدد نفسها كلما أشرقت شمس وعيها الحضاري.
في كل تفصيلة من تفاصيل هذا الافتتاح، من الفخامة إلى الدقة، من الحكاية إلى الرمز، كانت مصر تقول للعالم، ها نحن أبناء الفراعنة لم نكتفِ بأن نحفر تاريخنا على جدران المعابد، بل نصنع اليوم معبداً جديداً للحضارة، في زمنٍ يحتاج إلى النور أكثر من أي وقت مضى.
كانت الرسالة واضحة أن مصر، رغم العواصف والمؤامرات، قادرة على أن تنهض وتتوحد وتبدع حين يتقدم فيها الوعي ويشتد فيها الإيمان بالوطن.
لكن وأنا أشاهد ذلك المشهد المهيب، غمرتني موجة من الأسى والوجع، وختقتني العبرات بحرقة، وأنا أتذكر كيف لشعبٍنا الذي يعد مهد أول حضارة على وجه الأرض، أن يقف اليوم أمام أطلال ماضيه عاجزاً كل العجز عن حماية تراثه وصون ذاكرته؟
كيف لنا أن نفقد تواصلنا مع ذلك التاريخ السامق الذي أنار دروب البشرية، وأن يتحول حاضرنا إلى فوضى، ومستقبلنا إلى سؤالٍ مؤلم بلا إجابة؟
لقد كانت آثارنا وتحفنا شاهدة على أمجاد سبأ وبلقيس وحِمير، غير أن جزءاً كبيراً منها اليوم تدمّر أو تم العبث به أو سُرق واختفى في دول الشتات، كما هو حال الإنسان اليمني نفسه الذي سُرقت أحلامه وتبدّد مستقبله وتوزّع بين المنافي والمخيمات.
دُمّرت المتاحف على رغم بساطتها، وأُغلقت المواقع الأثرية، وعُبث بالمناطق التاريخية التي كانت يوماً منارات للحضارة، وأُهملت كما أُهمل الوطن، وتهاوت كما تهاوى بنيانه الممزق بالحروب والتقسيم والنسيان.
بين القاهرة وصنعاء ليس بُعد المسافات، بل بُعد الرؤية والإرادة، ففي الوقت الذي جعلت فيه أرض الكنانة من تاريخها جسراً للعبور إلى المستقبل، جعلنا نحن من حضارتنا حكاية تُروى فقط في كتب التاريخ الذي شابه كثير من التحريف والتشويه.
كم نحتاج اليوم إلى أن نتعلم من التجربة المصرية دروساً في الوفاء للتاريخ، وفي الإيمان بأن بناء الأوطان يبدأ من استعادة الوعي بقيمة ما كنا عليه، لنصنع ما يجب أن نكونه.
إننا اليوم، ونحن نرى مصر تصنع من ماضيها المجيد حاضراً مشرقاً، نوقن أن الشعوب لا تُقاس بما تملك من آثار، بل بما تملكه من إرادة لإحياء تلك الآثار في الوعي والوجدان.
ونتمنى ألا يكون بعيداً ذلك اليوم الذي سيصحو فيه اليمن من رماد الحرب، لينهض من جديد حاملاً مشعل حضارته الأولى، يبني متاحفه، ويستعيد مجده، ويزرع في ذاكرة الأجيال يقيناً بأن الوطن الذي أنجب سبأ وبلقيس لا يمكن أن يندثر.
ويظل السؤال الموجع يطرق القلب والعقل معاً،
هل يمكن أن ننجو، وتنجو معنا اليمن، أرض بلقيس وسبأ وحِمير؟
أم أننا سنظل ندور في دوامة صراعٍ لا تنتهي، تلتهم ما تبقى من ماضينا، وتُطفئ ما يضيء من حاضرنا، وتُغرق أحلامنا في ظلامٍ يمتد إلى المستقبل؟
فالتاريخ لا يرحم الغافلين، ويكرِّم فقط من يصنعون فجرهم بأيديهم.
ولعلنا، من بين ركام الألم، نبدأ الحكاية من جديد..
حكاية وطنٍ يعرف أن الحضارة لا تُورث، بل تُبنى كل يوم بالإيمان، والعلم، والحب، والعمل.
  
  تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية  عبر  Google news