تحوّلت المقابر في مناطق سيطرة مليشيا الحوثي إلى شاهدٍ يومي على الموت الجماعي الذي يُساق إليه اليمنيون قسرًا، إذ تتسارع حملات التجنيد والإجبار على القتال حتى امتلأت المقابر بأسماء جديدة، بينما تُخفي المليشيا خسائرها البشرية خلف شعارات زائفة وباطلة.
وتفرض مليشيا الحوثي على الأسر في مناطق سيطرتها إرسال أبنائها إلى الجبهات بالقوة، فيما يُختطف الشباب من منازلهم ليجدوا أنفسهم في خطوط النار، ثم تُعلن الجماعة عن مقتلهم بعد أشهر، دون أن يعرف ذووهم أين دُفنوا أو كيف قضوا.
وفي ظل تصاعد التجنيد القسري، تحوّلت مناطق سيطرة المليشيا إلى ساحات موت مفتوح، تستنزف فيها السُلالة الفقراء والمهمشين لخدمة مشاريعها، وتُخفي وراء شعاراتها التعبوية حجم الخسائر البشرية الهائلة في صفوفها.
ارتباك في الصف الحوثي
يرى محللون أن إعلان مليشيا الحوثي عن مقتل رئيس أركانها محمد عبد الكريم الغماري بعد خمسين يومًا من مقتله، ليس مجرد تأخر في الخبر، بل هو محاولة لإخفاء صدمة داخلية هزّت بنية الجماعة العسكرية والسياسية.
واعتبر الباحث السياسي أنس الخليدي أن الصمت الطويل لم يكن صدفة بل جزء من إدارة أزمة تعكس الانهيار المعنوي داخل صفوف مليشيا الحوثي، فكل قائد يُقتل يُفقد الجماعة توازنها ويكشف هشاشة التنظيم الذي يقوم على الولاء الشخصي لا الكفاءة المؤسسية.
بدوره، لفت الخبير العسكري عبد الصمد المجزفي إلى أن التكتم هدفه منع انهيار الروح المعنوية لعناصر المليشيا والحفاظ على صورة “المنظومة التي لا تُخترق”، بينما الواقع يقول إن المقابر في صنعاء وذمار وصعدة تشهد على عمق الخسائر البشرية.
مقابر بلا أسماء
في حي الجراف بصنعاء، تقول أم فؤاد لموقع "الصحوة نت" إن مليشيا الحوثي أخذت ابنها فجرًا من البيت بحجة التحاقه بدورة ثقافية، ثم أُرسل إلى الجبهة في مأرب. بعد أسبوع جاء خبر مقتله دون أن ترى جسده أو تعرف مكان دفنه، ومنذ ذلك اليوم تجلس أمام بيتها تضع صورته وتبكي.
وفي عمران، تلقت أم عبد الله، وهي معلمة في مدرسة ابتدائية، ورقة من مشرف الحي الحوثي تخبرها أن زوجها وابنها “نالا الشهادة”، لكنها لم تستلم سوى قميص مغطى بالتراب. منذ ذلك اليوم توقفت عن التدريس وتعيش على مساعدات الجيران بعد أن فقدت كل شيء.
وتوثق شهادات كثيرة كيف تُجبر الأسر على إرسال أبنائها إلى الجبهات مقابل وعود كاذبة برواتب أو حماية من الاعتقال. المشرفون الحوثيون يزورون البيوت ليلًا ويهددون بقطع المساعدات أو إيقاف بطائق الغذاء عن العائلات الرافضة للتجنيد.
في إحدى القرى شمال صنعاء، أكدت أم يونس لـ"الصحوة نت" أن الحوثيين هددوها بسجن زوجها إذا لم يذهب ابنها مع القافلة، فأرسلته وهي تبكي، وبعد أسبوعين علمت أنه دُفن في الحديدة دون أن يُكتب اسمه في السجل الرسمي لقتلى المليشيا.
أما أمل، الأرملة التي فقدت زوجها قبل الحرب، فوافقت على إرسال ابنها الأكبر بعد وعود بمساعدات غذائية، لكنه لم يعد، ومنذ عامين تعيش مع أطفالها الأربعة بلا معيل ولا قبر تزوره، في مأساة تتكرر في كل بيت فقير خاضع لسلطة المليشيا.
وأكد تقرير حديث لمنظمة محلية مقتل أكثر من 18 ألف مقاتل من مناطق شمال اليمن خلال السنوات الثلاث الأخيرة، معظمهم من الفقراء والأطفال المجندين قسرًا، بينما ترفض مليشيا الحوثي إعلان الأرقام الرسمية وتواصل تصوير الأمر كـ“نصر إلهي”.
تقول الحقوقية سعاد ناصر لـ"الصحوة نت" إن مليشيا الحوثي حوّلت الموت إلى مورد اقتصادي، إذ تستغل رواتب الشهداء لتمويل شبكات الولاء السياسي والعسكري داخل منظومتها، في وقت يعيش فيه ذوو القتلى الفقر والعزلة واليأس.
سياسة الإخفاء
يتقاطع هذا الصمت مع ارتباك أمني تشهده مليشيا الحوثي الإرهابية في الآونة الأخيرة، بالتزامن مع مقتل قيادات حوثية كبيرة، كانت الجماعة قد رفضت الاعتراف بها لأكثر من شهرين، ثم أعلنتها فجأة بعد إعادة ترتيب مواقع القيادة.
يقول الناشط حميد أحمد إن التأخير لم يكن إلا محاولة لاحتواء الصدمة ومنع الانقسام الداخلي، فكل قائد يُقتل يفتح باب الصراع على النفوذ والمال داخل مليشيا الحوثي التي تقوم على الولاء العائلي والمذهبي لا على المؤسسات الرسمية.
ويُجبِر المشرفون الحوثيون، في بعض المناطق الريفية، العائلات على دفع أموال مقابل استلام جثة ابنهم أو للحصول على “وثيقة استشهاد” تُمنح للأسر كشرط للحصول على المساعدات. وأحيانًا تُسلَّم العائلة نعشًا مغلقًا دون التأكد ممن بداخله.
في أحد شوارع صنعاء جلست هند تحمل صورة ابنها عبد الله وتروي لـ"الصحوة نت" أنه كان طالبًا في الثانوية، جاء مشرف حوثي وقال إن عليه “الالتحاق بالجهاد”، استيقظ في الصباح ولم يعد، وبعد أسبوعين أبلغوها بأنه قُتِل دون أن تتسلم جثمانه.
وتقول أم مازن “لم يبق لي أحد، ابني الكبير قُتل والصغير خُطف، لم أعد أعرف لمن أطبخ ولا لمن أعيش”، قصص تتكرر في كل حي جعلت من الموت روتينًا ومن الحزن سمة جماعية تسكن كل بيت يمني في مناطق سيطرة مليشيا الحوثي.
التجنيد القسري لليمنيين
في السياق، أكد تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" أن الحوثيين يجندون المئات من الأطفال بالقوة ويستخدمون المدارس والمساجد كمراكز تعبئة فكرية. فيما توثق منظمات يمنية محلية أكثر من 4 آلاف أرملة و12 ألف يتيم في صنعاء وحدها منذ 2020 بسبب التجنيد القسري.
يقول الباحث الاجتماعي عبد الكريم البعداني إن المجتمع اليمني في مناطق الحوثي يعيش مأساة تفقده توازنه، إذ تحوّل الحزن إلى جزء من الهوية اليومية للناس، بينما تعيش الأسر على حافة الفقر والخوف والإنكار وسط غياب أي أفق للحياة.
وأمام هذا الواقع، تختتم مأساة اليمنيين في مناطق الحوثي عند المقابر التي تمتلئ كل يوم بضحايا جدد، بينما تواصل المليشيا إرسال المزيد من الشباب إلى الجبهات دون اكتراث بحياتهم أو بمصير أسرهم، في مشهد يلخص حجم الفاجعة التي يعيشها المجتمع تحت حكم هذه السلالة الكهنوتية.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news