كثيراً ما حاولت الأنظمة والسلطات المتعاقبة أن تحوّل الثورة إلى أغنية أو نشيد، إلى كلمات رنانة تُردَّد في المناسبات الوطنية، أو إلى نياشين تُعلّق على صدور البعض في حفلات التكريم الرسمية. لكنها ليست هذا كله، وليست أبداً مجرد كلمات مطلية بالأناقة، تخدع العقول وتستدرج العواطف، حتى نقبل من خلالها كل الأخطاء والخيبات. الثورة ليست زخرفاً لفظياً ولا زخماً مسرحياً يعلو للحظة ويخفت في اليوم التالي، بل هي فعل أعمق من ذلك بكثير.
الثورة ليست تميمة نتوهم أنها تحمينا من شياطينهم واغتيالاتنا، ولا هي حماسيات اللون وصراخ المسرح ومهرجانات تستعد لها المؤسسات الرسمية ببهارج الاحتفاء وكلمات بارعة في المساء. ليست أيضاً جموع المصفقين والمهنيين الذين يبتسمون نفاقاً في كل مناسبة، وكأن الثورة مجرد احتفال موسمي يعاد إنتاجه بلا معنى ولا فعل.
جوهر الثورة أنها فعل إرادة واعية، تستند إلى القيمة الأخلاقية لمعنى التغيير المنهجي والمقصود. الثورة ليست انفعالاً عابراً، بل مشروع انتماء إلى الحب والجمال والبناء والتنمية. هي التزام بمواجهة القبح والظلم والفساد، وبأن يتحول الوعي إلى طاقة فاعلة في المجتمع.
ليست الثورة مواويل يرددها أصحاب الحناجر القوية، بل إرادة حقيقية لتحقيق انتصارات في مجالات العلم والعمل والمعرفة. الثورة لا تسكن الماضي، ولا تُستدرُّ في مسلسلات تلوك الأحداث القديمة بينما الحاضر يزداد ظلمة. هي وعي بممكنات التحول، وتوظيف للإمكانات المتاحة في الاتجاه الصحيح، لبناء مستقبل مختلف، لا لإعادة إنتاج واقع مأزوم.
الثورة فعل ثقافي واعٍ، ينجز مهام المستقبل كمشروع ينتظر الإمكانيات المتحققة ليصير واقعاً ملموساً. الثورة نحن، من قيم ومبادئ والتزام أخلاقي بالتعايش المجتمعي، بالكرامة الإنسانية، وبإعلاء المصلحة العامة على الأنانية الفردية أو المغانم الضيقة.
الثورة أن نكون بشراً صالحين، لا نقبل بتزييف الوعي، ولا نسمح بالمديح الكاذب لزعامات فارغة تستلذ بقهر الحياة فينا وتمضي بنا إلى التناحر والارتهان لقوى أجنبية. الثورة ليست صعلكة في فنادق خمسة نجوم، وليست ارتزاقاً سياسياً حدّ الخيانة، بل التزام أخلاقي بالوطن، وانتماء صادق إلى قضاياه العادلة، مهما كان الثمن باهظاً.
الثورة ليست وسيلة للتموضع الاجتماعي أو حيلة لانتزاع الشرعية، وإنما مسؤولية كبرى تجاه الوطن والناس والمستقبل. إنها نقيض الانتهازية التي تحوّل الشعارات إلى وسيلة للارتزاق. الثورة ليست فوضى ولا رغبة في تحطيم كل شيء، بل مشروع بناء يعيد صياغة العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة على أساس من العدالة والحرية.
إن الثورة، في جوهرها، ليست لحظة انفجار فقط، بل مسار طويل من التضحيات، والمراجعة، والعمل اليومي الدؤوب. هي ثقافة تُغرس في النفوس لتصير جزءاً من حياتنا اليومية، في العلم والعمل، في التربية والإبداع، في الاقتصاد والسياسة، وفي كل تفاصيل المجتمع.
الثورة ليست صورة تزين الجدران ولا شعاراً يرفع في المظاهرات ثم يُنسى. إنها التزام يومي بالوطن، وانتماء صادق إلى قضاياه، وإصرار على الدفاع عن كرامته مهما كلف الثمن. إن لم تكن الثورة هذا، فلن تكون سوى صدى باهت لأغنية قديمة فقدت معناها.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news