عبادي.. الرجل الذي حوّل أحلامنا إلى كتب

نشر الصديق الشاعر والكاتب محمد عبدالوهاب الشيباني صورة حديثة له مع الناشر المثقف أستاذنا القدير نبيل عبداللطيف عبادي، فأيقظت الصورة الكثير من الشجون، تأملت الصورة وتذكرت كم أدين لهذا الإنسان الجميل مثل غيري بالفضل. كان يسعدنا برؤية أغلفة كتب البدايات ومنها كتب الأصدقاء، فمنذ بداية عقد التسعينيات تعرفت من خلال إصداراته على جانب من أعمال الكاتب المسرحي القدير سعيد عولقي الذي قرأت له رواية “السمار الثلاثة” وكتاب مقالات ساخرة بعنوان “شقلبانيات”، ثم تابعت مقالات عولقي وما زلت حتى الآن أقرأ له بين فترة وأخرى.

أعود إلى صاحب الصورة الأستاذ نبيل عبادي، الذي جعلني انتقل من موقع القارئ إلى موقع الكاتب الذي يملك كتاباً مطبوعاً بفضل هذا الناشر المكافح الذي كان له دور مشهود في إظهار نتاج أكثر من جيل وأخص بالذكر جيل التسعينيات، حتى أصبح اسم مركز عبادي جزءًا من سيرتي الذاتية، كلما طلبها مني أحد وكلما أضفت إليها سطرا يبقى اسم مركز عبادي في متن سيرتي الذاتية باعتباره ناشر ثلاثة من كتبي الأولى:

“حياة بلا باب” مجموعتي الشعرية الأولى التي صدرت سنة (2002) وكان للشاعر الراحل محمد حسين هيثم إسهام في تحريضي على تقديمها للنشر ضمن إصدارات اتحاد الأدباء بالتعاون مع مركز عبادي للدراسات والنشر، في تعاون بين عبادي والاتحاد كان عماده الأساس نبيل عبادي ومحمد حسين هيثم.

كتابي الثاني الصادر عن مركز عبادي سنة 2003 بعنوان “الكتابة الجديدة.. هوامش على المشهد الإبداعي التسعيني في اليمن”.

كتاب شعري بعنوان “دون أن ينتبه لذلك أحد”- مركز عبادي للدراسات والنشر – 2006.

ما زلت أنظر إلى اسم مركز عبادي وأتذكر الأستاذ نبيل وهو أيضا باحث بيئي ومؤلف ومثقف ولديه رأي وموقف ضد التآكل المريع الذي أصاب كل شيء، بما في ذلك مشروعات الدولة قبل الوحدة في أبين والمتعلقة بالزراعة والأبحاث الزراعية.

قبل أن يتفرغ نبيل عبادي لنشر الكتاب اليمني انشغل باهتمامات بحثية أسفرت عن تأليفه لستة مؤلفات تحمل العناوين التالية:

– كتاب طيور اليمن

– حيوانات اليمن – الثدييات البرية

– حيوانات اليمن – البرمائيات والزواحف

– الإنسان والبيئة الطبيعية في اليمن

– ظاهرة الغربان المنزلية في الجمهورية اليمنية

– أشجار وشجيرات اليمن – بالاشتراك مع باحث آخر

هذا إلى جانب تأسيسه لنواة أول متحف طبيعي في اليمن، وأغلب هذا الجهد قام به قبل الوحدة خلال عمله بإدارة الأبحاث في وزارة الزراعة، وعن تلك الفترة يقول إن خبيرا سويسريا كان يعمل في صنعاء قام بزيارة لعدن قبل الوحدة، وتابع الأنشطة البحثية والميدانية الجادة التي تقوم بها إدارة الأبحاث في الجنوب، وحين التقى الخبير السويسري بعبادي بعد الوحدة قال له: لو كانت عندكم الإمكانيات التي في الشمال لتمكنتم من إنجاز الكثير في عملكم.

أول مكتبة في الجزيرة العربية

في أكثر من مناسبة يحضر فيها حديث النشر والناشرين والثقافة والطباعة في اليمن لا بد أن يحضر اسم الأستاذ نبيل عبادي.

هذا مقتطف من عمود صحفي نشرته قبل 17 عاماً بعنوان “أول مكتبة في الجزيرة العربية”، ومما جاء فيه:

كانت مدينة عدن في جنوب الجزيرة العربية تحفل بعائلات شهيرة، تمكنت منذ ما قبل منتصف القرن الماضي من تحويل المدينة إلى منارة ثقافية وأنموذج اجتماعي فريد للحياة المدنية المعاصرة، وحتى اليوم لا تزال عدن تضم شخصيات ثقافية محورية تسهم في صياغة المشهد الثقافي، من بين هؤلاء نبيل عبداللطيف عبادي الذي ينتمي لأسرة عاش أفرادها حياتهم بين الكتب، منذ الجد الأول عبادي حسن الذي هجر التجارة وأسس في عام 1890 أول مكتبة في الجزيرة العربية عرفت باسم «دار الكتب العربية» ولا تزال أبوابها مشرعة إلى يومنا.

الأسبوع الماضي (2008) كنت في زيارة للناشر نبيل عبادي، عاشق الكتب وحفيد مؤسس أقدم مكتبة في الجزيرة العربية، وها هو اليوم يغامر بعيداً عن حسابات الربح والخسارة ويحمل على عاتقه عبء نشر الأعمال الأدبية الجديدة في بلد يعاني ارتفاع نسبة الأمية.

شعراء وروائيون وكتاب قصة وأساتذة جامعات وباحثون، كل هؤلاء لجأوا إلى المركز الذي يديره نبيل في صنعاء لطباعة أعمالهم. أكثر من 2000 كتاب في حقول مختلفة رأت النور على يدي هذا الرجل، وكان أول من يتلمس صفحاتها قبل مؤلفيها، ووصلت مطبوعاته إلى أرقى المعاهد ومكتبات الجامعات في بعض العواصم الأوروبية المهتمة بتوثيق ودراسة الأدب العربي، وقبل أيام كان ضيفاً على معرض لندن للكتاب، وقبلها كان في باريس للمشاركة في ندوة حول الرواية اليمنية والسعودية.

حين التقيت به، كان يتساءل بحيرة عن سبب توقف والد جده عن التجارة وقيامه بإنشاء المكتبة القديمة في عام 1890، لكنه لم يسأل نفسه، لماذا لم يصبح هو تاجراً؟ ولماذا تخلى عن الوظيفة الحكومية وقرر السير في الدرب الذي سلكته الأجيال الثلاثة السابقة من عائلته؟ ويبطل العجب حين نعرف كيف كانت علاقته منذ الطفولة بالمكتبة والكتب التي كانت تحتل مساحة لا بأس بها من منزل الأسرة.

كان الجد الذي أنشأ المكتبة القديمة تاجراً، قام برحلات إلى الهند ومصر وإفريقيا وبلاد الشام، كما سافر إلى فلسطين، ويقول الحفيد إن مطابع القدس في العشرينات كانت مشهورة وتجد شعارها على أغلفة بعض الكتب القديمة. وعن اختيار اسم «دار الكتب العربية» للمكتبة القديمة يقول الناقد هشام علي إن التسمية جاءت لتمييزها عن المكتبات الأخرى التي كانت تقتصر على بيع الكتب الهندية والإنجليزية أثناء الاحتلال البريطاني لعدن.

وهكذا توارث الأبناء أول مكتبة أدخلت الكتاب العربي المطبوع إلى المنطقة آنذاك، وخلال سنوات ما قبل الاستقلال، كانت المكتبة تقوم بتوزيع صور الزعيم جمال عبدالناصر على المتظاهرين في الاحتجاجات الشعبية المطالبة برحيل الاحتلال..

الناشر الأصيل

في سياق آخر نشرت في العام 2019 مادة عن حال النشر في اليمن في ظل الحرب بعد أن أدت إلى إعادة ترتيب أولويات السكان، وجعلت التعاطي مع الكتاب في آخر سلم الاهتمامات. وكان لا بد من البحث عن الناشر الأصيل والمجتهد نبيل عبادي، فجاءني الرد في حينه من الصديق الشاعر محمد عبدالوهاب الشيباني الذي لا ينسى أحدا ويبقى يفتش عن الجميع، وأخبرني أن عبادي الذي كان آخر ما يمت بصلة لصناعة الكتاب في اليمن، أقفل دار النشر بعد توقف نشاطها على وقع الحرب، وأوقف كتبه التي كانت في المخازن، ويعرض مطبعته الصغيرة للبيع.

اسم كبير ووجه يماني من الوجوه البارزة

عندما أكرمني الأستاذ العزيز حسن العديني صاحب امتياز جريدة الأسبوع وأفرد لي صفحة بعنوان “وجوه” كانت شخصية نبيل عبادي محورا لها على مدى حلقتين في العام 2008 لم أعثر إلا على الحلقة الثانية وأقتطف هذه المقاطع مما جاء فيها:

يقول نبيل عبادي إن المتحف الطبيعي الذي أسسه كان موجودا بساحة الشهداء في زنجبار بمحافظة أبين، وتم نقله إلى مركز أبحاث الكود نتيجة لإهمال ساحة الشهداء بعد أحداث يناير، ولم ينس وظيفته كباحث، فحين تذكر مركز أبحاث الكود عبر عن حسرته بانفعال ظهر على ملامحه وارتفعت نبرة صوته بأسى وتذمر وهو يقول:

إن مركز أبحاث الكود يعد أقدم مركز أبحاث زراعي على مستوى المنطقة، أنشأ في بداية الخمسينات وكان في البداية متخصصًا في بحوث زراعة القطن ثم تطور وأصبح مركزاً شاملاً للأبحاث الزراعية، واليوم يتعرض هذا المركز الهام للتهميش، ويتساءل عبادي:

كيف تحول هذا المركز الهام من مركز قومي إلى محطة إقليمية، وأردف بالقول إن “الناس معذورون في الجنوب” في إشارة منه إلى بعض الأسباب التي أدت إلى ظهور الاحتجاجات الشعبية في بعض المحافظات الجنوبية، واعتبر مصير مركز الكود للأبحاث مثالاً للفوضى، وقال معلقاً:

مثلما افتخر بالمنجزات الموجودة في صنعاء وأحافظ عليها، يجب أن افتخر بما هو قائم في الجنوب وأحافظ عليه.

تحذير من التطرف

يرى نبيل عبادي أن البطالة في عدن وعدم استيعاب الدولة للشباب سيؤدي إلى حدوث كوارث اجتماعية خطيرة، ويحذر من نشاط بعض الحركات التي تروج للتطرف باسم الإسلام، وينبه لخطورة تغلغل فكر التطرف في أذهان الجيل الشاب من أبناء عدن، ويشير إلى أن ثقافة التطرف بدأت تطال عقول الشباب في المدينة نتيجة للفراغ الذي يعيشونه، وفي سياق تحذيره من تفشي هذه الظاهرة يحمل عبادي المسؤولية للدولة التي تتجاهل هذه الفئة العمرية. ويرى أن استيعاب الشباب وتوجيه طاقاتهم أمر ضروري لتجنيبهم تبني تلك الأفكار المتطرفة.

تأسيس المركز

يقول عبادي: في عام 1990 عينت مديراً لإدارة الحيوانات البرية بوزارة الزراعة، ولم تكن هذه الإدارة مفعلة، ولا أقول أنها كانت وهمية، فطلبت نقلي وانتدبت للعمل بمجلس حماية البيئة، وفي نفس العام افتتحت مكتبة بصنعاء، كانت بمثابة فرع للمكتبة القائمة في عدن، وتواصلنا مع دور النشر العربية وعدنا لاستيراد الكتب وتوزيعها فظهرت مشكلة ارتفاع سعر الدولار وتكبدنا خسائر وكنا في عدن قبل الوحدة قد ألفنا استقرار سعر العملة.

في 1994 قررت إغلاق المكتبة وتأسيس مركز عبادي للدراسات والنشر، وكان الهدف من إنشاء المركز الانتقال من بيع الكتب إلى مرحلة طباعة وإنتاج الكتاب اليمني، ولم أكن أفكر في طباعة الكتاب هنا في اليمن، بل في لبنان، ونتيجة لتدهور قيمة العملة المحلية قررت طباعة الكتاب في اليمن، فقمت بطباعة أول مجموعة كتب، وكانت النتيجة سيئة من حيث المستوى الفني، فانتقلت إلى الخطوة الثالثة وهي تأسيس وحدة إنتاج لطباعة الكتب داخل المركز في صنعاء، وحتى الآن أنتجت 1600 عنوان من إصدارات المركز، وقمت بطباعة 1000 عنوان لآخرين.

وفي أواخر 2001 التقى في مكتبي مجموعة من الأدباء وهم في لحظات تأسيس نادي القصة وتساءلوا عن مدى إمكانية مشاركة المركز في تقاسم تكاليف طباعة إصدارات أدبية لنادي القصة، فأنشأت سلسلة إبداعات يمانية التي تضم الآن 316 إصداراً.

أول كتاب طبعته هو رواية “السمار الثلاثة” لسعيد عولقي، وأحدث كتاب أصدره المركز رواية “بلاد بلا سماء” لوجدي الاهدل، وأعتبر أن من أهم إنجازات المركز رصد النتاج الفكري اليمني من قبل عام  94 عبر دليل المطبوعات اليمنية والمؤلفين اليمنيين الذي نصدره بشكل دوري وصدرت منه حتى الآن طبعتان وننوي إصدار طبعة ثالثة من الدليل قريبا.

وجه اليمن في الخارج

كان الناس يتساءلون لماذا يقدم عبادي على هذه الخطوة، وكنت أشعر بإحباط أحياناً، بسبب تراكم الكتب وقلة فرص تسويقها، ولم تعد لي الثقة بصحة قراري إلا حين شاركت مؤخراً في ندوة الكتابة السردية في اليمن والسعودية التي انعقدت في باريس، وهناك وجدت حفاوة بالأعمال الأدبية اليمنية ووجدت إصدارات المركز تمثل الوجه الثقافي والأدبي لليمن.

وختاما..

توقف مركز عبادي عن الطباعة بشكل نهائي في عام 2014 بعد تدهور الوضع الأمني والاقتصادي وانقطاع التيار الكهربائي بشكل كامل عن العاصمة اليمنية. أقام نبيل عبداللطيف عبادي في العام 2015 آخر معرض خصص لبيع مخزون المكتبة من الكتب. وتوقف مشروع ثقافي كان له أثر إيجابي كبير لا يمكن أن يتجاهله المؤرخ للتحولات الثقافية في اليمن على تواضعها، لأن ما أنجزه نبيل عبادي كان وسيبقى في الذاكرة وفي أرشيف المكتبة اليمنية والعربية.

*شكرا لأستاذنا نبيل عبداللطيف عبادي، أرجو أن تنقلوا له تحياتي وامتناني: أحمد السلامي.