الكتابة تمرين صارم على تقبّل الخسارة الكاملة، الخسارة التي لا تترك خلفها سوى رماد المفردات. من يكتب لا يربح، من يكتب يعلن دون وعي أنه فشل في أن يُسمَع فآثر أن يُقرأ. اللغة كانت دوماً أداة الأقوياء، إلا في الكتابة تصبح اللغة وسادة البائسين ومهرب الهاربين من حياة رفضت أن تُعاد صياغتها خارج شروط السوق أو سلطة القمع أو منطق القطيع.
سارتر كاهن الحيرة رأى أن الكاتب يكتب لأنه لم يختر أن يوجد فقرر أن يخترع نفسه في جملة اسمية .. وكأن الكتابة محاولة يائسة لإقناع العالم أو الذات بأننا لسنا عبثاً صرفاً بل على الأقل عبث أنيق العبارة.. ألبير كامو كتب “الطاعون” لا لأنه كان يحب الجزائر بل لأنه لم يكن يحتمل صمتها. الكتابة بهذا المعنى ليست إنتاجاً فكرياً بل نوع من الحياة البديلة، حياة على الورق لأن الحياة الواقعية أقل من أن تُحتمل.
الكتابة لا تغيّر العالم لكنها تغيّر الكاتب، وهذا بالضبط جوهر الهزيمة النبيلة، أن تبني متحفاً من الكلمات في خرائب التجربة .. الذين غيّروا العالم لم يكتبوا كثيراً، نابليون لم يؤلف ديواناً، هولاكو لم ينشر مقالاً نقدياً في مجلة “الٱداب”، الله حين قرر أن يُعلن نفسه لم يكتب كتاباً بخط يده بل استعان بوحي شفوي وبسلسلة من الرواة، كأن الكتابة أمر ثانوي في مجرى الخلق.
الكاتب المهزوم هو من جلس ليوثّق السقوط لا الانتصار، من كتب لا ليقنع الآخرين بل ليخدع نفسه ويقنعها أن ما حدث لم يكن كارثياً كما يبدو .. تماماً كما يفعل الجنود بعد الهزيمة، يعدّون الرصاصات التي لم تُطلق، ويتحدثون كثيراً عن الطقس في ساحة المعركة.
ما تكتبه ليس نصاً بل تقريراً داخلياً عن فشل لم تتجاوزه بعد، والمفارقة أن القرّاء يحبون هذا الفشل، يحبون أن يروك محطماً على الورق، لأن ذلك يمنحهم لحظة خادعة من النجاة. والكتابة لا تجيد التوقيت، دائماً تأتي متأخرة كالمعزين الذين نسوا التاريخ، أو كمحامٍ يظهر بعد صدور الحكم .. إنها تشرح ما حدث بعد أن لم يعد أحد يهتم، ولذلك تُقرأ بمتعة باردة، كأنك تستعرض صور حفل لم يُدعَ إليه أحد. الكتابة أيضاً ليست شجاعة بل ردّ فعل عصبي على الفزع، هي شتيمة غير معلنةونحيب بصوت هادئ وصرخة تم ترويضها بالحروف.
الكاتب لا يحارب .. لأنه فقد الإيمان بالسلاح، ولأنه لا يثق بالنصر، فآثر أن يحمل دفتراً بدلاً من بندقية، لكنه رغم كل ذلك يواصل لأنه لم يتقن شيئاً آخر، ولأنه أدمن الهزيمة حتى صارت وطنه الوحيد .. لا أحد يكتب لأنه سعيد، ولا يكتب لأنه يريد تعليم الآخرين. الكاتب ببساطة يكتب لأنه لم يجد طريقة أنضج ليبكي فبكى الأبجدية. لا أحد يربح في الكتابة، كلنا نخسر ونصوغ خسارتنا بأسلوب جميل .. وهذا وحده أفظع انتصار.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news