مقصورة هامش القيامة

     
بيس هورايزونس             عدد المشاهدات : 85 مشاهده       تفاصيل الخبر       الصحافة نت
مقصورة هامش القيامة

قصة قصيرة

هذه قصّة كتبتها في سبتمبر 2021. أبطالها أصيل الجبزي (الراوي)، عمر باطويل، محمد الأغبري، عبدالملك السنباني. وكلّهم قتلهم الإرهابيون ببشاعة وبلا قلب في أماكن وأوقات مختلفة ومتقاربة. أعيد نشرها لمرور الذكرى الخامسة لاستشهاد أصيل الجبزي.

عائدٌ من أمام باب القيامة، كنتُ أُسقي قبيلة أقحوان وعشائر رياحين وشَذَب زرعتها بعد وصولي بشهرين لتدلَ أمي علي حينما تأتي من العالم السفلي ولِأزينَ ملامح الصحراء اللامتناهية أمام باب القيامة.

دخلتُ هامش القيامة وسلمتْ على من تعرفتُ عليهم منذُ وصولي. هامش القيامة هو هامشٌ بلا اسم ونحنُ فقط من نسميه هكذا، مقصورة هامشية بحجم قرية خُصِّصت من الهيئة العليا لشؤون الموتى للذين ماتوا بطريقة غادرة في زمن الحروب والخيانات واللاإنسانية، يظلون فيه حتى تحنّ ساعة موتهم الطبيعي في كتاب القدر في العالَم الأسفل فيدخلون داخل القيامة عبر بابها الواسع جدًا.

– هل أحضرتَ معك؟ سألني عمر باطويل عن باقة المشاقر التي أحملُها له كلما عدت من باب القيامة حيث مشاقري تنتظرُ أحبائي.

– بالتأكيد حبيبي. وأخرجتُ الباقة الملونة بكل أنواع المشاقر وناولتها إياه. عمر سبقني بأربع سنين تقريبًا. يظلُ يحدثنا دائما عن جمال الله اللامحدود والنابع من كل شيء.

ألتفتُ لأحد القتلى غدرًا والذي وصل منذُ أيام فقط ومازال حتى الآن لم يحدّث أحدًا. اسمه عبدالملك السنباني، ناولته وردة أقحوان، أخذها وابتسم، وزعتُ أقحوانةً لكل مغدور في مقصورتنا.

رحتُ أجلسُ بجانب محمد الأغبري وأتأملُ عينيه الحزينتين. ناولته أقحوانة.

– شكرًا.

– سمعتُ أن قاتليكَ طردوا من العالم السفلي بالرصاص وأنهم هنا في المقصورة المجاورة، مقصورة القيامة.

– لا يهم.

لم استغرب قوله، فقد بتُ أعرفه تمامًا: ربما العالم السفلي تحلى بقليل من العدل، على الأقل فيما يخصك.

– ربما… لا يهم.

صمتَ قليلًا بينما رحتُ بعيني أتأمل المقصورة. شبابٌ غادروا العالم السفلى مبكرًا، عيونهم تسبحُ في عوالم سفلية، قلوبهم مليئة بالحنين والألم، يخدعون أنفسهم بالرضا بينما يحلمون بثقبٍ فجائي على العالم السفلي ليقفزون منه إلى حيثَ أتوا من هناك. شبابٌ أغلبهم يمنييون والبقية قدموا من بلدان تشتعل بها الحروب. اليمنيون شبابٌ قتلوا برصاص طائش، شباب قتلوا لأجل قات، منهم لأنهم قالوا الحقيقة، منهم لأنهم عِشقوا، منهم دون سبب، منهم تناثروا في جبهات دون عدو حقيقي. “تعددتْ الأسباب، والموت واحد “. هكذا كانوا يقولون في الأسفل.

– تعتقد أنه لن يعودَ هناك مستغل للبنات وللناس بعد إعدام قَتلتي، أقصد انتهتْ مافيا الابتزاز. على الأقل في صنعاء، أو قُلْ على الأقل على مستوى شبكتهم؟ سألني الأغبري.

– لا أعلم، لا أظن أن الشر ينتهي.

أقبلَ عمر باطويل يجرُ خلفه بحب الوافد الجديد عبدالملك السنباني، عرفنا على بعضنا وأبتسمنا. شكرني على الأقحوانة.

– أيريدُ أحدٌ مِنا أن يعودَ إلى الأسفل؟! هل نَحِّنُّ إلى العالم السفلي؟ أرتجلتُ.

– أريدُ أن أعود دائمًا لأخبرهم أن الله جميل كأقحوانك وأنه ليس كما يعتقدون، بل هو كما هو لا يُوصف. وأنه جمالٌ وكمالٌ مطلق. أريد أن أعود وليقتلوني مرة أخرى وسأعود وهكذا… قال عمر بنشوة صوفية. أحبُ فلسفته الجميلة -عن الله- كالله. صفقتُ له وأخرجتُ أقحوانتي الخاصة التي تشبه أمي من جيبي وناولته. مصها بأنفه ورَيحَنْها بنسماتِ كلامه عن الله.

– ” لا أحدَ يحنُ إلى جرح ” كما يقول محمود درويش. نعم أحنُ إلى أقربائي، أصدقائي، حبيبتي؛ لكن لا أريد أن أعود للعيش هناك على ذلك الجحيم المسمى بالأرض. أفضلُ أن أكتوي هنا بالانتظار من أن يكون جحيمي في الأرض بردًا وسلاما. قال الأغبري وتاهتْ عيناه في خيال لحضات لقاء مرتقبة.

– سأنتظرهم هنا، سيأتون واحدًا واحدًا. أضاف.

اختنقتْ إجابتي في حلقي وماتت حبالي الصوتية. لدرجة ما إنّه يشبهني.

– ربما أنا مثلك -أشارَ للأغبري- وربما هذا لأنني ما زلتُ مصدوما بموتي ولا أصدقه ولم أتصالح معه، أحنُ إلى أهلي وأختي الحبيبة وأصدقائي وحبيبتي وأريد العودة لأكمل أشيائي التي لم أنْهِها. لكني أشعرُ بالخوف، أشعر بالحقد تجاه ذلك البلد، علمتني العودة درسًا لن أنساه.

ارتعشتْ روحي من صدق ما قاله السنباني، لقد أعادني إلى لحظاتي الأولى، كنتُ مثله، لكنه أكثر حظًا، استطاع أن يخرجَ نيرانه على شكل كلمات بينما لم أستطع أن أقولَ ذلك حتى الآن.

– بماذا قُتلت؟ سألتُه.

– بعملةٍ صعبة. أجابَ بأسى.

الأغبري والسنباني ينظران إلى مجهول بأسى، بينما هربتُ من الجواب على سؤالي. فاجأني عمر: وأنت يا أصيل الحبيب، هل تريد العودة، هل تَحنُ إلى الجبزية؟

مسحتُ على جبيني بارتباك وتلعثمت.

– في البداية كنتُ أحنُ لكل شيء لأكمل عمري الحقيقي في كتاب القدر والذي أكمله هنا وأحقدُ على قاتلي ثم استسلمتْ فأردتْ فقط أن أعود لأنهي بعضَ الأشياء، أَقبِّلُ حبيبتي القُبلة الأولى والأخيرة في حياتي، أحضر حفل تخرجي وأخذ شهادتي وأعلقها في جدار البيت في الجبزية ليفتخر بي والدي وأبوسُ رأسه ورأس أمّي وأكتب لهما رسالة وداع صغيرة ولأصدقائي وأنشرها في صفحتي على فيسبوك. فقط أصبحتُ أريدُ أن أشيعَ نفسي ببساطة ورضا. في الأخير لم تَعُدْ تراودني هذه الأشياء، أصبحتُ لا أعرفُ ماذا أريد وإلى ماذا أحن. أُسقي مشاقري عند باب القيامة وأوصفُ لها شكلَ أمي وأبي وحبيبتي وألوانهم لتتعرف عليهم ولتَحرسُ مجيئم وأنتظرهم هنا بينكم، ومن وقتٍ للآخر أنظر للأرض بأسى.

توقفتُ عن الكلام حين شعرتُ بدموعٍ في عيوني وشعرتُني أبكي. احتضنني عمر وربتَا السنباني والأغبري على كتفي.

بينما كنا نبكي بصمت والعالم يهتز في الأسفل، كان أحدهم يدخلُ هامش القيامة.

– وافد جديد. قال عمر.

– يمني. قلتُ بحزنٍ بعدما رأيته.

نظرَ السنباني لي يسألني كيف عرفت ذلك.

– لا أحد يخطئ اليمني عند هامش القيامة.


Google Newsstand تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news


تابعنا على يوتيوب

تابعنا على تويتر

تابعنا على تيليجرام

تابعنا على فيسبوك

السعودية.. من “المجلس الجمهوري” إلى “المجلس الرئاسي الانتقالي” (1_2)    

بيس هورايزونس | 901 قراءة 

خلافات حادة في الحكومة اليمنية.. بن بريك يشترط الإطاحة بوزراء بارزين لإتمام التعديل الوزاري

العين الثالثة | 813 قراءة 

الأرصاد تحذر: سيول وعواصف رعدية وانزلاقات صخرية تهدد عدة مناطق

حشد نت | 703 قراءة 

في موكب مهيب… صنعاء تودّع شقيقة الرئيس الذي هزّ اليمن

المرصد برس | 595 قراءة 

أحمد علي عبدالله صالح يفتح النار على ”مليشيات الحوثي” ويخاطب المؤتمريين في صنعاء

المشهد اليمني | 482 قراءة 

قرارات حكومية جديدة لدعم الريال اليمني وتعزيز الاستقرار الاقتصادي

نيوز لاين | 449 قراءة 

انقلاب عسكري .. وزير الدفاع بحكومة الشرعية يتعرض لطعنة غادرة 

الحدث اليوم | 426 قراءة 

شاهد بالصور .. سيول الأمطار تصل إلى أسطح المنازل بعدن

كريتر سكاي | 423 قراءة 

عاجل.. بالصور قدوم سيل ثاني متجه إلى عدن

موقع الأول | 369 قراءة 

أسعار صرف الريال اليمني مقابل السعودي والدولار في صنعاء وعدن ومأرب اليوم السبت 23 أغسطس 2025م

بران برس | 328 قراءة