كشف المركز العربي بواشنطن العاصمة في تحليله الموسوم "حقيقة وتهديدات سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي على شرق اليمن" عن أبعاد خطيرة لتصعيد المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيًا في محافظتي حضرموت والمهرة، مع تجاهل واضح للدعوات الإقليمية والدولية لخفض التصعيد والانسحاب من هذه المحافظات.
ويشير التحليل ، إلى أن هذه التحركات لم تعد شأناً محليًا محصورًا في صراع نفوذ داخلي، بل باتت جزءًا من شبكة مصالح إقليمية ودولية، تشمل الأمن الخليجي، الممرات البحرية الحيوية، والاستراتيجيات الكبرى للإمارات والسعودية، بما يهدد استقرار جنوب اليمن ووحدة الدولة.
وفي ظل هذا الواقع، يطرح التقرير تساؤلات مصيرية حول مآلات التصعيد، وسبل الحسم، وخيارات القوى المحلية والإقليمية والدولية لتجنب انزلاق اليمن نحو مواجهة عسكرية واسعة.
نص التحليل:
هيمنت قوتان عظميان، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، على منطقة الشرق الأوسط الكبير خلال الحرب الباردة. وتأثرت الأحداث التي جرت من بلاد الشام جنوباً إلى اليمن وعبر شمال أفريقيا تأثراً كبيراً، إن لم تكن محددة تماماً، بتضارب المصالح والتنافس بين هذين اللاعبين الدوليين الرئيسيين.
وقد أدى انهيار الاتحاد السوفيتي وظهور مراكز قوى إقليمية إلى صورة أكثر تعقيداً: فما يجري على ساحات القتال في الشرق الأوسط بات اليوم رهناً بكيفية تعريف إيران وإسرائيل وتركيا والسعودية والإمارات العربية المتحدة لمصالحها وطموحاتها القومية.
لا تزال الولايات المتحدة، رغم مزاعم إدارة ترامب بتراجع اهتمامها، لاعباً مؤثراً وفاعلاً رئيسياً. وتنبع التطورات الأخيرة في جنوب اليمن - حين وسّع المجلس الانتقالي الجنوبي الانفصالي المدعوم من الإمارات سيطرته على محافظتي حضرموت والمهرة شرقي البلاد - من تطلعات القادة اليمنيين والصراع على السلطة في شمال البلاد وجنوبها.
إلا أن هذه التطلعات لا تتحرك في نهاية المطاف إلا ضمن حدود ما تسمح به القوى الأقوى، إقليمياً ودولياً. وبالفعل، يمكن لقطع الشطرنج على رقعته أن تتخذ قراراتها، ولكن فقط في حدود ما يسمح به اللاعبون الخارجيون.
التداعيات المحلية :
تُشير خطوة المجلس الانتقالي الجنوبي إلى نهاية الهدوء النسبي الذي ساد جنوب اليمن منذ معركة مأرب عام 2021. ويبدو أن هذه الخطوة قد زعزعت الائتلاف الحاكم الهشّ أصلاً، الذي شُكّل عام 2022 بموجب اتفاق سعودي إماراتي، حيث غادر رئيس المجلس القيادي الرئاسي، رشاد العليمي، عدن متوجهاً إلى الرياض، مُلقياً باللوم على رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، عيدروس الزبيدي، في انهيار الاتفاق.
وإذا ما استمر تقدم المجلس الانتقالي الجنوبي في شرق اليمن، ما يعني فعلياً سيطرته على كامل جنوب اليمن، فلن يجد المجلس القيادي الرئاسي أي أرضٍ يستند إليها.
ومهما كان رد فعل المجلس القيادي الرئاسي المدعوم سعودياً، أو حتى رد فعل السعودية نفسها، فقد بدأ المجلس الانتقالي الجنوبي بالفعل في إراقة الدماء، وبدأ الصراع يلوح في الأفق. ولا بدّ من حسم هذا الانقسام بأي شكل من الأشكال.
وفي يوم الجمعة الموافق 26 ديسمبر، اتهم المجلس الانتقالي الجنوبي الطائرات السعودية بقصف مواقعه وعتاده، وأعلن أن قواته تتعرض لكمائن في حضرموت. تشير التقارير التي تفيد بوجود نحو 20 ألف مقاتل من قوات "درع الوطن" المدعومة من السعودية على الحدود بين البلدين إلى أن الصراع احتمال وارد في المستقبل المنظور.
لا تقتصر تحديات المجلس الانتقالي الجنوبي في جنوب اليمن على المجلس الرئاسي، إذ تعج المنطقة بالصراعات الداخلية. وعلى الصعيد القبلي، ينحدر معظم قادة المجلس الانتقالي الجنوبي من محافظة الضالع، مسقط رأس الزبيدي ومعقله السياسي.
تاريخيًا، اندلعت التوترات بين جماعة الضالع-لحج (الطغمة) وجماعة أبين-شبوة (الزمرة) في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سابقًا، لتتحول إلى حرب أهلية دامية عام 1986، وهي نزاع مسلح قصير الأمد أسفر عن آلاف الضحايا ومهد الطريق للوحدة مع الشمال عام 1990.
ولا يزال الاستياء قائمًا حتى اليوم بين المناطق الشرقية (حضرموت والمهرة) والغربية (أبين والضالع) من الجنوب، ولا يندمج زعماء القبائل في حضرموت والمهرة بسهولة في تحالف المجلس الانتقالي الجنوبي، بل يعترضون على سيطرته.
مع تصاعد هذا الاستياء، يتوقع المجلس الانتقالي الجنوبي تحديات وهجمات على قواته من داخل المنطقة التي يسعى لتمثيلها. في الوقت الراهن، لم يُبدِ الحوثيون أي رد فعل، مفضلين مراقبة تطورات الاضطرابات في الجنوب مع إدانة أي نوايا انفصالية من جانب المجلس الانتقالي الجنوبي.
البعد الإقليمي
يصف مصطلح "الأصدقاء الأعداء" بدقة العلاقة بين السعودية والإمارات. فبعد أن بدأت العلاقات بأهداف متشابهة ظاهريًا في الصراعات الإقليمية، من سوريا إلى السودان إلى اليمن، انتهى المطاف بالحليفين في مجلس التعاون الخليجي إلى دعم جماعات متنافسة خلال الحروب الأهلية في هذه البلدان.
في اليمن، كان البلدان شريكين في التدخل عام 2015 ضد سيطرة الحوثيين على صنعاء عام 2014، ولكن بمجرد توقف تقدم الحوثيين نحو عدن، اتخذ الشريكان مسارين مختلفين، حيث ركز السعوديون على دعم حكومة عبدربه منصور هادي وحزب الإصلاح المعترف بها دوليًا، بينما بدأ الإماراتيون بتشكيل ميليشيات محلية ودعم المجلس الانتقالي الجنوبي.
ومع إظهار السعوديين اهتمامًا بالحفاظ على حدود آمنة مع اليمن وارتباطهم التاريخي بمنطقة حضرموت، تبنت الإمارات نهجًا استراتيجيًا أكثر طموحًا في سعيها للسيطرة على موانئ جنوب اليمن والجزر قبالة الساحل، ولا سيما أرخبيل سقطرى.
علاوة على ذلك، نشأت شراكة استراتيجية بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة (الموقعة الآن على اتفاقيات أبراهام لعام 2020)، وتجلّت في اليمن من خلال إنشاء قواعد ومهابط طائرات في أرخبيل سقطرى وجنوب اليمن.
وتتركز نقاط قوة المجلس الانتقالي الجنوبي في الجنوب بشكل رئيسي على طول الساحل ، مما يضمن بالتالي موانئ ومنافذ الوصول إلى سقطرى والبحر الأحمر لصالح النفوذ الإماراتي.
قد تصل المنافسة في اليمن، حيث تتباين مصالح الشريكين الخليجيين بشكل واضح، إلى نقطة حرجة ، ويعود ذلك جزئياً إلى قرب ساحات القتال من الحدود السعودية، وإلى ما يُعتبر مصالح حيوية للإمارات العربية المتحدة.
وقد دعت تصريحات رسمية سعودية إلى عودة القوات إلى مواقعها الأصلية، وكررت الإمارات هذا المطلب، وإن كان بشكل أقل وضوحاً. وفي 25 ديسمبر/كانون الأول، صعّدت السعودية من مطالبها للمجلس الانتقالي الجنوبي بسحب قواته من المنطقة، ما دفع الأخير إلى رفض قاطع.
ولعل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان آل سعود ورئيس الإمارات محمد بن زايد آل نهيان يتمكنان من إنقاذ الموقف من خلال التوصل إلى حل وسط يحفظ ماء الوجه بين الفصائل المحلية، تجنباً لحرب أهلية دموية أخرى في اليمن.
في هذا السياق، كتب عبد الغني الإرياني: "يمكن التراجع عن سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي بالوسائل السلمية. تمتلك المملكة العديد من الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية لإقناع المجلس الانتقالي الجنوبي بجدوى الانسحاب، وحثّ الإمارات العربية المتحدة على التعاون في هذا الشأن".
وبينما يُخفي قادة المجلس الانتقالي الجنوبي ومتحدثوه نواياهم الانفصالية بشكلٍ واضح، فقد برروا زحفهم شرقًا بدوافع أمنية، زاعمين أن دافعهم الرئيسي هو سدّ منافذ تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية وخطوط تهريب الحوثيين في الجنوب. ومن الواضح هنا إغفال سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي على حقول النفط والغاز المربحة في حضرموت.
ظاهريًا، يمكن أن يؤدي التوصل إلى حل وسط إلى إعادة نشر القوات المسلحة الرسمية التابعة للمجلس الرئاسي في المناطق الواقعة على طول طرق التهريب المعروفة، ويمكن تعويض المجلس الانتقالي الجنوبي عن التخلي عن المناطق الغنية بالطاقة من خلال دعم مالي أو مشاريع في عدن والمناطق المحيطة بها تُفيد السكان الذين يعانون من ضائقة مالية.
البعد الدولي
أكدت البيانات الأمريكية الرسمية بشأن التوترات التي أثارها المجلس الانتقالي الجنوبي في جنوب اليمن على ضرورة خفض التصعيد والعودة إلى الاستقرار.
وقد شارك وزير الخارجية ماركو روبيو في محادثات مع قادة سعوديين وإماراتيين، معربًا عن اهتمام الولايات المتحدة بوقف أي شرخ بين هذين الشريكين الرئيسيين، وبالتالي إضعاف التحالف المناهض للحوثيين داخل اليمن.
ومع ذلك، فإن خطوة تعزيز نفوذ الإمارات في جنوب اليمن تصب في مصلحة الأهداف الاستراتيجية الأوسع للولايات المتحدة. إذ يمكن أن يساعد النفوذ الإماراتي في توسيع اتفاقيات إبراهام، والمساهمة في إغلاق طرق التهريب البحرية، وتأمين مدخل البحر الأحمر.
وقد لمحت وسائل الإعلام الإسرائيلية علنًا إلى الفوائد التي قد تجنيها إسرائيل في حال ظهور جنوب يمن مستقل برعاية الإمارات. وفي مناشدة واضحة للدعم الأمريكي، أشار عيدروس الزبيدي، من المجلس الانتقالي الجنوبي، في مقابلاته الصحفية إلى إمكانية انضمام جنوب يمن مستقل إلى اتفاقيات إبراهام.
في حال حدوث ذلك، سيكون لإسرائيل وجود رسمي في مثل هذا الموقع الاستراتيجي، بالإضافة إلى الوجود غير الرسمي الذي تتمتع به بالفعل، بفضل تعاونها مع الإمارات العربية المتحدة.
وأعربت تركيا عن مخاوف مماثلة لتلك التي أعربت عنها السعودية، وتحديداً دعوتها إلى ضبط النفس وخفض التصعيد في اليمن، وقلقها على وحدة البلاد واستقرارها في المنطقة.
في المقابل، انتقدت إيران الإمارات العربية المتحدة لدعمها المجلس الانتقالي الجنوبي، وحذرت من أن الاضطرابات في جنوب اليمن تدعم بشكل مباشر أهداف إسرائيل التوسعية في المنطقة.
بينما تعارض كل من روسيا والصين ظاهريًا الهيمنة الغربية، وخاصة الأمريكية، في الشرق الأوسط، فإنهما يتعاملان مع اليمن والمنطقة بشكل مختلف إلى حد ما؛ إذ تدعم روسيا الحوثيين بشكل صريح، بينما تتخذ الصين نبرة أكثر حذرًا وتقدم دعمها لنهج دبلوماسي أكثر توازنًا.
في الواقع، تقدم الصين مساعدات دبلوماسية لجهود الأمم المتحدة الرامية إلى حل النزاع اليمني سلميًا، وتُعد وساطتها بين الرياض وطهران جزءًا من هذا النهج المتوازن، الذي يسعى إلى التوصل إلى حل وسط بدلًا من تحقيق انتصار لأحد الطرفين في الحرب بالوكالة في اليمن، من بين أمور أخرى.
وامتنعت كل من روسيا والصين عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2801 الأخير، الذي مدد العقوبات على اليمن، منتقدتين محاولات الغرب ممارسة المزيد من الضغط على الحوثيين على حساب الشعب اليمني ككل.
لم تُعلّق الصين تحديدًا على سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي على محافظات جنوب اليمن، مُجددةً دعوتها إلى حل أكثر شمولًا للمشاكل السياسية والإنسانية في اليمن.
لم يمتد الدعم الخطابي الروسي للحوثيين إلى دعم مادي أو عسكري صريح، كما توخّت روسيا الحذر في عدم الانحياز لأي طرف في الأحداث الجارية في الجنوب، مفضلةً الحفاظ على علاقاتها مع جميع الأطراف المعنية.
خاتمة
لا يمكن اعتبار التوغل العسكري للمجلس الانتقالي الجنوبي في شرق جنوب اليمن عملية أمنية بحتة، بل هو بالأحرى استغلال انتهازي لرغبة قديمة لدى المجلس، ولا شك لدى شريحة واسعة من الجنوبيين، في إقامة جمهورية مستقلة في جنوب اليمن.
كما لا يمكن فصل هذا الاستيلاء العسكري، في حال نجاحه، عن الصورة الاستراتيجية الإقليمية والدولية الأوسع. فبالنسبة لإسرائيل، تُشكل الحرب المستمرة منذ عامين على غزة، والهجمات على إيران (التي تشنها الولايات المتحدة أيضاً)، والقصف اليومي على لبنان، والنظام الجديد في سوريا، جميعها عوامل تُعزز شعورها بالتفوق العسكري، وهو ما عبّر عنه قادة اليمين الإسرائيلي علناً بأنه فرصة لهزيمة أعدائهم هزيمة نكراء والاستيلاء على المزيد من الأراضي.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، وخاصة منذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فإن رؤية شرق أوسط جديد تترافق مع هزيمة إيران وحلفائها في المنطقة، وتوسيع نطاق اتفاقيات أبراهام لتشمل دولاً أخرى في العالم العربي والإسلامي.
يملك القادة والشعب اليمني، نظرياً على الأقل، خيار رفض جميع التأثيرات الخارجية والتوصل إلى اتفاق داخلي بحت لبناء دولة جديدة تشعر فيها جميع المناطق والفصائل بالاستقرار.
ولكي يصبح هذا الخيار واقعاً، يتعين على القوتين الإقليميتين المؤثرتين بشكل مباشر على اليمن، وهما السعودية والإمارات، تنحية أهدافهما الطموحة جانباً والعمل على حل وسط يرجح كفة الوئام على الصراع.
وبدورها، يمكن للولايات المتحدة أن تتخلى عن حسابات الربح والخسارة التي تنظر إلى اليمن كأداة في صراع القوى الإقليمي الأوسع، وأن تختار دوراً دبلوماسياً أقوى إلى جانب مبعوث الأمم المتحدة للسلام، هانز غروندبيرغ، للمساعدة في رأب الصدع الإقليمي والعودة إلى خارطة طريق للسلام الشامل، مما يقلل المخاطر على جميع الأطراف المعنية.
وفي هذا السياق المعقد، يكمن الخيار الأسهل في أن تبادر القوى الإقليمية إلى التوصل إلى حل وسط بالغ الأهمية، مما سيسهل على الجهات الفاعلة المحلية والدولية أن تحذو حذوها.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news