*عزالدين سعيد الأصبحي:
**تدخل القاعة الفخمة، المجهزة بكل أدوات التواصل والاتصال،إلا مشاعر الصدق!
تلك – لعمري – محطة اختبار، لا فرصة لقاء رفيع.
الحسناء التي تخاطبك بثلاث لغات، ليس بينهن لسان الصدق.
وذاك الذي يحتل المقعد الأوسط
يجعل الصف يختل من نهمه للميكروفون، ومن رغبته الملحّة – التي تراها رأي العين – أن يغرس في أذنك جهاز تصنّت، لا لحظة تواصل.
وفي مهنة السياسة، القائمة دائماً على سوء الظن، يكون أول دروس الوعّاظ هو أن تضع أعصابك في ثلاجة الوقت، وترسم على وجهك ملامح بلا تفاصيل.
أنا الآتي من صخب مجاميع الفن،
ودراويش الكلمة، بقيت أكتب عن ضجيج الأرصفة،لا عن قاعات الهواء المعبّأ برائحة الترقّب.
نُطلق أسماء بعضنا بصوت أقرب إلى الصراخ لا وضع المتوجّس القلق.
هذا لقاء دبلوماسي ساخن رغم صقيع أوربا ،يصفه متحدث بأنه رفيع، عن التحولات. أي تحولات؟!.
سؤال لا يفارق الذهن لحظة، وكل من حولك يُجيد طرح الأسئلة
ولا يعرف طريقًا للإجابة. والمُضمر لك شرّاً يرتدي قفاز الصداقة، وعليك أن تؤكد له بلاهتك الطيبة، وألا تُظهر ملامح الخيبة المتزايدة.
لماذا يحضر الآن شيخنا، العارف بالحكمة،
أبو الطيب المتنبي، مردداً معك:
“ومن نَكَدِ الدنيا على الحرِّ أن يرى
عدوًّا له ما من صداقتهِ بُدُّ “
قيل – كما يذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق – وما أكثر حضور دمشق هذه الأيام في محافل لا تدري صدقها من زيفها!
أن المتنبي أنشد هذا البيت،
فقيل له: على من تنبّأت؟.
قال: على الشعراء.
فقيل: لكل نبيٍّ معجزة، فما معجزتك؟
قال: هذا البيت.
“ويروي قصة نقد سيبويه له، حيث أشار أن البيت كان أجود لو قيل “ما من مداراته بد” ليدل على ضرورة التعامل مع العدو، ولكن المتنبي رد بذكاء موضحاً أن المقصود هو أن الصداقة نفسها مع العدو نكد لا مفر منه.”
وأشهد في هذه اللحظة أنه من أبلغ ما قيل، في زمن تنهار فيه القيم، ويُعمل على تسييد الجهل، ويصفّق أهل الحلّ والعقل للحمقى،
بل نسارع للاحتماء بأهل الباطل، ونطلب السلام ممن يشعل حرائق الحروب. ولعلّ ما قاله الفيلسوف الكندي آلان دونو ،في كتابه الشهير نظام التفاهة. كان تكثيفاً فكرياً دقيقاً. يشخّص هذا الانهيار القيمي الدولي؛ حين قال إن التفاهة
بسطت سلطانها على العالم، لكنه لم يقل شيئًا عن حجم معاناتك ،وأنت مضطر للاستماع لأربع ساعات متقطعة من أحاديث مفككة؛
لا يزعجك فيها شيء بقدر ضحالتها، غير ركاكة مفرداتها.من متضخّم يقبع خلف طاولة ضخمة متصدرة للصورة والمكان .
و أعجبني تعليق صديق شاعر
ساقه سوء الحظ إلى الاجتماع،حين أنصت لكوكبة من المتحدثين، وكنا نسمع حكايات عن غضب شباب يشكون من سوء التعليم، فقال:
الأحرى بهذه الكوكبة المنتشية بالطاولات الفاخرة، ان تشكر الشباب الغاضب وتنضم إليهم ،فهولاء أيضاً ضحايا سوء التعليم قبلهم ، وإلا كيف جرح سمعنا متحدث أساسي بثلاثين خطأً لغوياً ،خلال سبع دقائق؟.
ضحكتُ للتعليق، وأعجبتُ بقدرة شاعرنا على إحصاء الأخطاء؛ فذاك تركيز مدهش.
أما أنت، إن ساقك حسن الحظ
لتكون في مثل هذا المحفل ،فلا تهدر وقتك في رصد أخطاء أهل المنصّات،بل فكّر كيف تجمع قواك في تجميع عبارات للردود، لا تعني بها شيئاً، لكنها تُنجيك لتخرج سالماً من إجتماع،الساعة فيه بألف سنةٍ مما يعدّون؛ حيث يُكرَّس الجهل ويُقدَّس الملل.
ولعلي أستعيد هنا.
قول الشاعر الكبير عبدالله البردوني:
“تنسى الرؤوسُ العوالي نارَ نخوتها..
إذا امتطاها إلى أسياده الذنب”
وإن كنتُ من قبيلة ابي الطيب المتنبي في مععجزته التي لا تفارق بالي. فإني أخرج وحيداً ،مردداً:
“ومن نَكَدِ الدنيا على الحرِّ أن يرى
عدوّاً له ما من صداقتهِ بُدُّ”
* سفير بلادنا لدى المملكة المغربية
**نقلا عن جريدة الاهرام المصرية
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news