آ
عبدالله علي العليمي لم يأتِ إلى السياسة صدفة، ولم يتسلّق الدولة بموهبة فردية، بل انطلق من الساحات بوصفها منصة توظيف سياسي لا مشروع تغيير. في 2011 كان خطيبًا حاضرًا، صوته مرتفع، لغته ثورية، وشعاراته حادّة، لكنه لم يكن ابن القطيعة ولا حامل برنامج. الساحات لديه كانت رأس مال سياسي سريع؛ مساحة تُنتج الشرعية الرمزية، لا الالتزام الطويل. استثمر غضب الشارع ليصعد، ثم غادره في اللحظة التي تحوّل فيها الغضب إلى عبء، لا إلى رافعة.
هذا الصعود لم يكن ذاتيًا. التنظيم دفع به مبكرًا، لا إلى الواجهة الكبرى، بل إلى الموقع الأخطر: نائبًا لمدير مكتب الرئاسة نصر طه مصطفى. هناك بدأ التحوّل الحقيقي. لم يكن المنصب كبيرًا في ظاهره، لكنه كان بوابة النفوذ. التنظيم قرأ الرجل جيدًا: هادئ، مطيع، طويل النفس، ويجيد العمل في الظل. ومن خلال هذا الموقع تعلّم العليمي أسرار القرب من القرار، لا صناعة القرار؛ كيف تُدار المواعيد، وكيف تُنتقى التقارير، وكيف تُصاغ اللغة التي تصل إلى الرئيس، وكيف تُحجب اللغة التي لا ينبغي أن تصل.
مع الوقت، ومع انتقاله إلى إدارة مكتب عبدربه منصور هادي، قويت مكانته لدى الرئيس. هنا بدأ الفصل الأخطر: تنكّرٌ تدريجي للتنظيم الذي صنعه. لم يخرج علنًا، ولم يعلن قطيعة، لكنه بدّل الولاء من الجماعة إلى الموقع. استبدل خطاب “نحن†بخطاب “أناâ€، وحوّل علاقته بالتنظيم من انتماء إلى مسافة. لم يعد يتحدث باسم الإصلاح، ولم يعد يقبل أن يُقدَّم بوصفه مرشحه. صار يُعيد تعريف نفسه كلما سُئل: “أنا مرشح هادي، لا مرشح الإصلاحâ€. ترديد هذه العبارة لم يكن دفاعًا بريئًا عن الاستقلال، بل عملية غسيل سياسي لماضٍ تنظيمي يريد طمسه حين باتت السلطة أقرب من الجماعة.
هذا التنكّر لم يكن شجاعة فكرية ولا مراجعة نقدية، بل انتهازية باردة. التنظيم كان سلّم الصعود، وحين انتهت الحاجة إليه، أُزيح جانبًا دون ثمن. لم يُدافع عنه حين حُوصِر، ولم يتبنَّ قضاياه حين ضعُفت، ولم يتحمّل كلفته حين أصبحت عالية. نقل أدواته التنظيمية إلى قلب الدولة، ثم أغلق الباب خلفه.
في إدارة مكتب هادي، بلغ هذا السلوك ذروته. العليمي لم يبنِ مؤسسة رئاسة، بل بنى طبقة عازلة بين الرئيس والواقع. كان حارس القرار، لا صانعه؛ يقرّر ما يصل وما يُحجب، ويؤجّل ما ينبغي حسمه. في لحظات مفصلية—منها اجتياح الانتقالي لشبوة—اختار الصمت وإدارة المشهد من الخلف، وحجب التقارير والتحذيرات، لأن المواجهة كانت ستكلف تحالفات، وستكسر توازنات بناها ببطء. الصمت هنا لم يكن غفلة، بل سياسة.
وحين انتقل إلى مجلس القيادة، حمل معه المنهج ذاته. يرفض أن يُحسب على الإصلاح، ويُصرّ على أنه امتداد لهادي، لا للجماعة. هذا الإصرار ليس توصيفًا قانونيًا، بل خطاب نفي؛ نفي للماضي الذي أوصله، وتأكيد لحاضر يريد أن يبدو محايدًا وهو يمارس نفوذًا تنظيميًا بوسائل الدولة. هكذا تحوّل من خطيب ساحات إلى مهندس غموض: يقول ما يطمئن الجميع، ويفعل ما يُبقي الجميع محتاجين إليه.
الخطر في حالة العليمي ليس أنه “تخلّى†عن التنظيم، بل كيف تخلّى. لم يفعل ذلك باسم الدولة ولا لصالحها، بل باسم الموقع. استبدل الانتماء بالجدار، والولاء بالممر، والوضوح بالغموض. خرج من الساحات محمّلًا بشرعية الشارع، ودخل القصر محمّلًا بأدوات الجماعة، ثم أغلق الباب ليحكم بمنطق الوسيط الدائم.
وفي السياق الإقليمي، نسج العليمي علاقة براغماتية حذرة مع السعودية والإمارات، قوامها الطمأنة لا الندية. قدّم نفسه كحلقة وصل هادئة تُجيد إدارة المخاطر وتخفيف الاحتكاك، لا كصاحب أجندة سيادية واضحة. مع السعودية، حافظ على خطاب الاستمرارية ومنع الانفجار، ومع الإمارات تفادى الصدام وفضّل الإبقاء على قنوات مفتوحة حتى حين تعارضت الوقائع على الأرض مع منطق الدولة. هذا التموضع لم يكن توازنًا متكافئًا بقدر ما كان سياسة تفادي تُبقيه مقبولًا خارجيًا، وتُراكم داخليًا كلفة الغموض وتأجيل القرار.
أما على الصعيد الشخصي وفيما يبدو كمسار بديل عن السياسة يُتداول على نطاق واسع شائعات حول فساده المالي وممارسته للتجارة، بما في ذلك حديث عن استثمارات عقارية في دبي واندونيسيا ونشاطات تجارية خاصة. وبغضّ النظر عن صحة هذه الشائعات من عدمها، فإن تداول هذه الروايات في حد ذاته—في ظل موقعه الحساس داخل الدولة—يعزّز صورة تداخل العام بالخاص، ويُضعف ما تبقى من الشرعية الأخلاقية لرجل يُفترض أنه يقود مسارًا عامًا في لحظة وطنية حرجة.
عبدالله علي العليمي ليس رجل دولة فاشلًا، بل صعود انتهازي ناجح في دولة فاشلة. استغل الساحات ليصعد، استُخدم تنظيميًا ليقترب، تنكّر حين اشتدّ عوده، وكرّر بلا ملل أنه “مرشح هادي†ليغسل أثر الجماعة. هو لا يهدم الدولة علنًا، لكنه يُفرغها من معناها؛ لا يصطدم، لكنه يُديم التعطيل؛ لا يعلن خصومة، لكنه يُحوّل الغموض إلى قاعدة حكم. وفي الدول التي تتآكل ببطء، يكون الخطر الأكبر في أولئك الذين صعدوا بالثورة… وحكموا بالظل.
وأتس أب
طباعة
تويتر
فيس بوك
جوجل بلاس
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news