بشرى العامري:
لم تكن فاطمة علي العشبي، الشاعرة اليمنية التي رحلت في الرابع والعشرين من أكتوبر 2021، مجرد اسمٍ في سجلّ الإبداع، بل كانت سيرةً تمشي على حدّ السيف، وامرأةً واجهت عصرها وقبيلتها والعالم بأسره، مسلّحةً بموهبة عنيدة لا تعرف الانكسار. رحلت فاطمة، لكن خطوتها ما تزال تُسمع، كما لو أنها تمشي في الطرقات القديمة بصوت امرأةٍ تُصرّ أن تصل.
وُلدت فاطمة عام 1959 في قرية بيت العشبي بالمحويت، في ريفٍ بعيدٍ عن المدن لكنه قريبٌ من الأسئلة الأولى، لماذا تُحرم المرأة من التعليم؟ ولماذا يُخنق الحلم قبل أن يكتمل؟
كان والدها شيخ القبيلة، ورغم أنه منعها بدايةً من المدرسة احتراماً للتقاليد، إلا أنّ فاطمة لم تستسلم. فتعلّمت القراءة والكتابة سراً، كما تتعلّم الطيور الطيران قبل أن يراها أحد. وحين اكتشف والدها ذلك، تحوّل المنع إلى دهشةٍ وفخر، فأحضر لها معلماً يفتح لها أبواب القرآن واللغة والشعر. .
ومنذ ذلك اليوم، صار العالم كتاباً كبيراً، تقرأه فاطمة صفحةً بعد أخرى.
تزوجت فاطمة مبكراً، لكنها لم تسمح للحياة أن تبتلع حلمها.
عادت للدراسة، خطوةً خطوة، حتى وصلت إلى الجامعة. كتبت الشعر منذ طفولتها، وواجهت بسببه غضب القبيلة وحراب العادات، فتوقفت عنه لفترة ثم عادت إليه أقوى.
وعلى مدى نصف قرن، كتبت ما يقارب ألف قصيدة، وطنية واجتماعية وغنائية. وكتبت بالفصيح والعامي، بالقصيدة العمودية والقصيدة الحرّة، بالصوت الذي لا يشبه إلا نفسه.
كانت باحثة في مركز الدراسات والبحوث اليمني، وكانت أول امرأة تترأس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين فرع صنعاء.
لم تكن تبحث عن مجدٍ شخصي، بل عن مساحة تقول فيها الحقيقة كما هي، بلا خوف.
قال عنها ابنها المحامي عبد السلام العبسي:أنها خاضت ألف معركة وقصيدة انتصرت فيها جميعاً… دافعت عن النساء والأطفال والفقراء، ونافحت بنفسها ومالها وحياتها في سبيلهم.
وهذا الوصف ليس مبالغة. فقد كتبت فاطمة عن الظلم، والتمييز، وحرمان النساء من الإرث، كما في أبياتها العامية التي تشبه صرخة من أعماق اليمن:
“تقولْ بنت اليمنْ لا تزعلو يا رجالْ
الشِّعرْ في معظمْ الحالات يِدّي زعلْ…”
وكتبت عن القهر الأسري الذي عاشته الكثير من اليمنيات: “قالوا اخوتي هيا اخرجي لا تِحلَمي يا شاطره /
ميراثْ أبونا هو لنا…”
وفي فصيحها قالت، كاشفةً حجم الجرح: “أنا امرأة من بلاد السبايا…
لمن أشتكي حين يثقل قيدي
ويكسرني كالزجاج الألم…”
لم تكن فاطمة شاعرةً فقط، بل كانت مرآةً لوطنٍ يُعذب نساءه، ويُصرّ على أن يبقيهن خلف الأبواب.
وحين هاجمها السرطان، لم يتغير شيء في روحها. قاومته بثبات من يعرف أن الشعر أثمن من الألم، وأن القصيدة تستطيع أن تقف في وجه الموت ولو للحظة.
وفي مساءٍ بارد من أمسيات برمنغهام البريطانية، أغمضت فاطمة عينيها. رحلت في أقصى الشمال، بعيدةً عن صنعاء التي أحبتها، وعن القرية التي حملت منها أول الضوء.
رحلت، وقد كتبت وداعها بنفسها: “وداعاً… إنها النهاية،
والنهاية لا بداية لها.”
صدر لها خمسة دواوين: إنها فاطمة، العزف على القيود، شعبيات عشبية, غداً نكون معاً, قد نضحك يوماً ما، إضافة إلى أعمال بحثية ودراسات.
ظلّ شعرها، بنبرته القوية وتواضعه العميق، شاهداً على امرأة لم تقبل أن تكون رقماً، ولا تابعاً، ولا هامشاً. كتبت نفسها في ذاكرة اليمن كما تُكتب النسور فوق الجبال بسخاء، وبقوة، وبأثر لا يزول.
فاطمة… التي لا تُرثى إلا بشعرها
قالت ذات يوم: “كلنا فاطمة… ثورةٌ عارمة.”
وكأنها كانت تعلن أن قصتها ليست قصتها وحدها، بل قصة المرأة اليمنية التي تُحاصر كل يوم لكنها لا تموت.
أما أبياتها العامية الاكثر شهرة والتي أحبها الناس: “قلبي وقع في الحب خمس مرات
مرة اتكسر.. ومرتين سلامات
والرابعة فيها دفعت خيرات
والخامسة جيت أسعفه وقد مات.”
فاطمة العشبي، الشاعرة التي واجهت القبيلة، والمجتمع، والمرض، ورحلت واقفة.
تركت قصائد تكفي لأجيال، وتركت درساً بسيطاً:
أن المرأة حين تكتب، يمكن للكلمات أن تغيّر قدراً كاملاً،
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news