لليوم الرابع على التوالي، تعيش مدينة سيئون مركز وادي حضرموت (شرقي اليمن) انفلات أمني وحالة رعب غير مسبوقة، وذلك عقب سيطرة قوات المجلس الانتقالي الجنوبي القادمة من محافظات الضالع ولحج وأبين على المدينة.
وبينما حاول “الانتقالي” تبرير ما حدث بأنه عملية أمنية لإعادة الأمن والاستقرار لوادي حضرموت، فإن الوقائع الميدانية والوثائق المصوّرة تكشف عن سلسلة انتهاكات جسيمة طالت العسكريين، والمدنيين، والممتلكات العامة والخاصة، محوّلة الوادي إلى بؤرة فوضى.
تأتي هذه الانتهاكات المستمرة، خصوصًا ضد العسكريين، رغم أن سيطرة الانتقالي على المدينة جرى دون أي مقاومة تذكر من وحدات المنطقة العسكرية الأولى، والتي أفادت مصادر أمنية وعسكرية بتلقيها توجيهات عليا بعدم المواجهة.
سيطرة سهلة
اجتاحت قوات الانتقالي مدينة سيئون فجر الثالث من ديسمبر الجاري، بعد أيام من التحشيد العسكري المكثف، وتمكنت القوات المهاجمة من السيطرة الكلية عليها خلال ساعات قليلة دون أي اشتباك يذكر مع قوات المنطقة العسكرية الأولى.
ونشرت وسائل الإعلام التابعة للانتقالي مشاهد مصورة تظهر دخول الآليات العسكرية والقوات المهاجمة بسلاسة إلى المؤسسات الحكومية كالقصر الجمهوري ومطار سيئون وقيادة المنطقة العسكرية الأولى، مما يؤكد أن قوات المنقطة انصاعت للأوامر بعدم المواجهة.
كما أظهرت المشاهد انتشار واسع وسريع لقوات الانتقالي في المدينة، واستحداثها نقاط تفتيش في الشوارع، وقيام المسلحين بتفتيش المارة واعتقال عشرات الجنود وتجريدهم من ملابسهم العسكرية.
تصفيات وإهانة
وثقت المشاهد المصورة التي تداولها نشطاء الانتقالي على منصات التواصل الاجتماعي انتهاكات بالغة الخطورة، خصوصًا ضد منتسبي المنطقة العسكرية الأولى المكلفة بحفظ الأمن والاستقرار في وادي حضرموت.
ويظهر أن هذه الانتهاكات سبقها تحريض من أعلى المستويات، حيث وصف الانتقالي المنطقة العسكرية الأولى بأنها في بيانه بأنها تمثل “الرئة التي يتنفس منها الحوثي والإخوان والتنظيمات الإرهابية الأخرى”. فيما تولى قائد قوات الدعم الأمني التابعة للانتقالي بحضرموت “ابو علي الحضرمي” تحريض المقاتلين ميدانيًا وحثهم على طرد ما أسماه “القوات الدخيلة”.
على مدى يومين توالت مشاهد التنكيل وإهانة الضباط والجنود رغم التزامهم بالتوجيهات بعدم الاشتباك حقنًا للدماء ومصادر عسكرية تتحدث عن تصفيات ميدانية
ومنذ اللحظات الأولى لدخول المدينة، أكدت مصادر عسكرية وأمنية ضلوع قوات الانتقالي بتنفيذ عمليات تصفيات ميدانية للعديد من ضباط وجنود المنطقة بعد أسرهم من مواقع خدمتهم دون مقاومة، ولا يزال مصير جثامين الكثير منهم مجهولًا.
وعلى مدى يومين، توالت مشاهد التنكيل وإهانة الضباط والجنود رغم التزامهم بالتوجيهات بعدم الاشتباك حقنًا للدماء وحفاظًا على وحدة الصف.
وتضمنت التسجيلات المتداولة، مشهدًا يظهر ضباطًا مسنًا وهو مصاب وملقى على الأرض، ويحيط به مجموعة من مسلحي الانتقالي. ووفقًا للتسجيل فقد خاطبهم الضابط بقوله: “أسعفوني أو كمّلوني (اقتلوني)”. وفي وقت لاحق، أُعلن عن وفاة الضابط في ظروف غامضة.
وأظهرت تسجيلات أخرى قيام عناصر الانتقالي بتمزيق ملابس جندي وإهانته بسبب حمله العلم الوطني، وتواجده في نطاق مهمته الرسمية. ولا يزال مصير مئات الضباط والجنود مجهولًا، بما فيهم قيادات عسكرية من أبناء حضرموت اختطفوا من منازلهم ومقار أعمالهم.
نهب ومداهمات
مع إحكام السيطرة على المدينة، شن مسلحو الانتقالي والموالون له عمليات نهب ممنهجة وواسعة النطاق، طالت منازل ومحال تجارية، وبالأخص المملوكة لمواطنين من أبناء المحافظات الشمالية. بالإضافة إلى منازل مسؤولين عسكريين وأمنيين.
وتداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي مشاهد مصورة لسكان محليين يشتكون قيام مسلحي الانتقالي باقتحام منازلهم ونهب محتوياتها، وسط حالة الحصار والرعب التي يعيشها سكان المدينة.
ومن هذه الوثائق المرئية، تسجيلًا مصورًا لامرأة من سيئون تشتكي فيه اقتام منزلها ونهب محتوياته، فيما أظهر تسجيل آخر طفلة تبكي بعد طرد أسرتها من منزلهم إثر اقتحامه ونهبه من قبل قوات الانتقالي.
أظهرت مشاهد متداولة قيام مسلحي الانتقالي باقتحام منازلهم ونهب محتوياتها وسط حالة الحصار والرعب التي يعيشها سكان المدينة
وسُجلت عمليات نهب واسعة لمعسكرات ومخازن الأسلحة والذخائر التابعة للمنطقة العسكرية الأولى. ووفق مصادر عسكرية فقد نُقل جزء منها إلى خارج المدينة، فيما أفاد شهود ببيع جزء من الذخائر والمنهوبات في السوق المحلي.
وشملت عليمات النهب مؤسسات حكومية ومقار حزبية، وتضمنت المنهوبات وثائق ومعدات وأجهزة وسيارات بأنواعها.
وفي مقابلة تلفزيونية مساء أمس الخميس، أكد محافظ حضرموت، سالم الخنبشي، تعرض المواطنين في وادي حضرموت للنهب، مضيفًا أنه طالب قيادات الانتقالي بـ“ضبط الأمور عند هذا الحد”، وخاطبهم بأن هذه الممارسات “لا تليق بكم”.
تجميد الحياة
أدت سيطرة الانتقالي، وما رافقها من انتهاكات واسعة، إلى شلل تام في الحياة العامة بمدينة سيئون، ووفقًا لمصادر محلية فقد أغلقت كافة المدارس والمؤسسات، وتعطل العمل في كافة المؤسسات والمرافق الخدمية بما فيها المطار الدولي.
ووثق نشطاء استيلاء مقاتلي الانتقالي على بعض المؤسسات الحكومية ونهبها والعبث بمحتوياتها. كما قاموا بإسقاط أعلام الجمهورية وصور الرموز الوطنية وإهانتها بوضعها تحت الأقدام وتوثيق هذه الممارسات بالصوت والصورة.
انهيار خطير
في حديثه لـ“برَّان برس”، عبّر رئيس منظمة سام للحقوق والحريات، توفيق الحميدي، عن صدمته العميقة ودهشته مما يجري، مؤكدًا حدوث عمليات نهب للممتلكات العامة، والخاصة بما فيها “نهب مقر حزب الإصلاح، وبعض المنازل”.
وأضاف: حصلنا على تسجيلات لبعض التجار الحضارم يشكون نهب البضائع. ونحن على تواصل مع بعض المواطنين الذين تم نهب ممتلكاتهم”. موضحًا أن هذه الانتهاكات قام بها “قوات المجلس الانتقالي، وبعض الموالين للانتقالي” الذين وصفهم بأنهم “عاطلون عن العمل”.
ما حدث لا يعبر عن انتهاكات فرديه بل تكشف مستوى خطير من الانهيار في منظومة في الانضباط العسكري وانهيار في احترام القانون
كما أكد حدوث انتهاكات ضد عسكريين بما فيها تصفيات ونهب منازل. مضيفًا أن منظمته ما تزال في طور التوثيق لهذه الانتهاكات التي اعتبرها “مخالفة للقانون، خاصة اتفاقية جنيف الأولى والثانية، والمتعلقة بأسرى الحرب، وأيضاً القانون الدولي الإنساني الذي يستوجب حماية ممتلكات الناس الشخصية وأرواحهم في مثل هذه الظروف”.
وفقًا للحميدي، فإن هذه التطورات “لا تعبر عن انتهاكات فرديه بل تكشف مستوى خطير من الانهيار في منظومة في الانضباط العسكري وانهيار في احترام القانون”. مؤكدًا أن “الاعتداء على الجنود وتجريدهم وتصويرهم بهذه الطريقة المهينة أو تصفية بعضهم ميدانيًا تعد جرائم موثقه بالصوت والصورة، وتمثل انتهاك لاتفاقيه جنيف مبادئ الكرامة الانسانية”.
ليست منفصلة
أكد رئيس منظمة سام، أنه “لا يمكن قراءة هذه الأحداث بأنها حوادث منفصلة، بل مؤشر كبير على تحلل الدولة، وغياب القيادة، وتحول السلاح إلى إذلال".
واستغرب تحوّل “الرفقاء السياسيين الذين من المفترض أن يكونوا في صف سياسي وعسكري ضد جماعة الحوثي إلى خصوم، وعداوة في ظل غياب المشروع الوطني وانتقام خارجي. مؤكدًا أن “كل انتقام خارجي لأسباب- ربما تاريخية- تعتبر انتهاك وخارج إطار القانون”.
دعوة وتحذير
فيما يتعلق بإهانة العلم الوطني، أوضح الحميدي، أن لهذا “دلالة سياسية”، واعتبرها “جريمة على مستوى القانون اليمني”. وأضاف: “المفترض أن رئاسة الجمهورية تفتح تحقيق في مثل هذا الأمر؛ فالجمهورية اليمنية ما زالت هي المعترف بها دوليًا والممثل الشرعي لدى الأمم المتحدة، وبالتالي هذه مجرّمة بموجب القانون الدولي”.
العليمي وجه بتشكيل لجنة تحقيق واتخاذ ما يلزم لجبر الضرر وعدم إفلات المتورطين من العقاب
وإجمالًا، أكد الحقوقي الحميدي، أن كل هذه الممارسات هي “انتهاكات جسيمة تستوجب تحقيق ومحاسبة، وتدخل واضح من السلطة”، محذرًا من أن “الصمت يفتح الأبواب ربما لانتهاكات كبيرة قد تقوض ثقة الناس بالدولة بشكل كامل”.
وأمس الجمعة، وجه رئيس مجلس القيادة الرئاسي "رشاد العليمي" قيادة السلطة المحلية في محافظة حضرموت والجهات المعنية في الحكومة بتشكيل لجنة تحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، والأضرار التي طالت المواطنين والممتلكات العامة والخاصة في حضرموت، واتخاذ ما يلزم لجبر الضرر، وعدم إفلات المتورطين من العقاب.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news