التطورات التي تشهدها منطقة وادي وصحراء حضرموت، تعبر عن حالة من التوتر والاحتقان تراكمت على مدى عقود حتى بلغت ذروتها بما شهده الأسبوعان الأخيران من تطورات عسكرية بخلفيات سياسية وإقتصادية لا تخفى على كل لبيب.
لقد تخلت السلطات الرسمية عن معالجة جذر المشكلة حينما وقفت قياداتها تتفرج على ما يجري في هذه المنطقة وكأنها مساحة جغرافية لا تنتمي إلى الدولة اليمنية (المفترضة)، ولا تمثل جزءاً من جغرافيتها؛ وتداخل في هذا المشهد الغرائبي عاملان مهمان هما:
1. ما تمثله المنطقة من أهمية اقتصادية بحكم وجود أهم الحقول والقطاعات النفطية المنتجة للنفط والغاز والتي تمثل الجزء الأغلب من عائدات النفط اليمنية والرافد الأساسي لموازنة الدولة طوال ما يقارب العقود الثلاثة، وهنا يحضر النفوذ الكبير لمراكز القوى التي هيمن أساطينها على السلطة السياسية بعد 1994م وأصبحوا من كبار أصحاب المصالح في هذه المنطقة الاستراتيجية الاقتصادية الهامة.
2. وجود قوات المنطقة العسكرية الأولى على امتداد هذه المساحة الجغرافية (ومعها محافظة المهرة)، وجميع قيادات وأفراد هذه القوات هم من الوافدين مع حرب 1994م ، والذين شكل وجودهم حالة من التكامل بين نفوذهم العسكري وبين المصالح الاقتصادية للمهيمنين على الاستثمارات النفطية، ولم تشهد هذه المنطقة العسكرية أي تغيير في قياداتها إلا استبدال (قائد وافد بقا وافد آخر)، ويتذكر الجميع أنه حتى حينما حاول الرئيس هادي تعيين أركان لهذه المنطقة من أبناء حضرموت لم يتمكن الرجل من أداء مهماته سوى أسابيع محدودة لأن الوحدات والأفراد، والقادة الأدني لا ينصتون إلَّا للقائد (الوافد) من خارج المنطقة، حتى لو كان خارج نطاق المسؤولية القيادية.
وأنتجت هذه الحالة قدرا من المفارقات التي لا تنطلي يستسيقها عاقل، فأبناء محافظة حضرموت بقيوا خارج أي حساب اقتصادي أو معيشي أو تنموي أو عسكري، حيث معظم مناطق حضرموت التي تنتج الكميات الهائلة من الوقود (النفط والغاز) تعاني من أزمة انعدام الوقود والكهرباء بينما تذهب عائدات مناطقها إلى جيوب النافذين الشركاء مع الشركات المستثمرة في التنقيب والاستخراج والتصدير من أساطين السياسة والتجارة الوافدين مع حرب 1994م، وبالموازاة مع ذلك يعاني أبناء حضرموت من الحرمان من الانخراط في العمل في تلك الحقول والقطاعات النفطية، وكذا في المؤسسة العسكرية التي يهيمن عليها غزاة 1994م، فضلا عما يعانيه أبناء مناطق الاستخراج من انعاكاسات بيئية تمثلت في انتشار العديد من الأمراض الخطيرة الناجمة عن انتشار المواد الملوثة للبيئة والمصاحبة لعملية استخراج وإنتاج النفط والغاز، وهو ما حول المنطقة إلى حالة من الاحتلال المتكامل الأركان.
رغم الأصوات الكثيرة التي ارتفعت على مدار أكثر من عقدين والمطالبة بتصحيح هذا الوضع وإدماج أبناء حضرموت في الحياة الأمنية والعسكرية والاقتصادية والتنموية في هذه المنطقة إلا إن نظام المنتصرين اعتبر هذا الوضع هو الغنيمة الأكبر من غنائم الحرب ولا يمكن التنازل عنه، أما الرئيس هادي الذي لم يكمل السنتين حتى جرى الانقلاب عليه، فلم يتمكن من إجراء أي تصحيح للوضع المختل بسبب هيمنة أصحاب المصالح في هذه المنطقة على صناعة القرار الرئائسي، وظلت هراوة "عليك أن لا تنسى أننا نحن من أتى بك إلى منصب الرئاسة" تلوح فوق رأسه كلما حاول اتخاذ قرار جدي لمعالجة أية مشكلة من المشاكل.
ولا بد من الإقرار أن التدليل الذي حظيت به قيادات هذه المنطقة على مر ثلاثة عقود قد جعل منها أداة فعالة في تنفيذ العديد من المهمات التي ظل نظام ضنعاء حريصاً على القيام بها في هذه المنطقة الهامة لتخريب الحيلاة السياسية والأمنية والعسكرية، وأهم هذه المهمات:
1. كانت تلك المنطقة حاضنةً قوية للجماعات الإرهابية، ويعلم الجميع أنه وبعد تحرير مناطق حضرموت الساحل من جماعة داعش والقاعدة، علي أيدي قوات المنطقة العسكرية الثانية بقيادة اللواء فرج البحسني والنخبة الحضرمية، لاذات تلك الجماعات الإرهابية بالفرار إلى مناطق حضرموت الوادي والصحراء وهناك حظيت بالرعاية والحماية العاليتين من قبل قيادة المنطقة العسكرية الأولى.
2. لقد كانت المنطقة الجغرافية التي سيطرت عليها قوات تلك المنطقة العسكرية تمثل ممراتٍ آمنةً لتهريب الأسلحة الإيرانية إلى الجماعة الحوثية في صنعاء، وهو ما يؤكد أن قيادة هذه القوات قد مثلت اليد الطولى للجماعة الحوثية في تلك المنطقة المترامية الأطراف ويتذكر الجميع أنه وحينما اتخذ الرئيس عبدربه منصور هادي قراراً بنقل بعض وحدات تلك المنطقة لدعم المقاومة التي أبداها أبنا مناطق حجور بعمران ضد الجماعة الحوثية وقبلها في مديرية عتمة بمحافظة ذمار تمرت قيادة تلك المنطقة (العسكرية الأولى) على قرار رئيس الجمهورية وهو القائد الأعلى المفترض للقوات المسلحة اليمنية ورفضت إرسال أي جندي إلى مناطق المواجهة مع الحوثيين، وهو ما يؤكد التخادم والتكامل بين قيادة تلك المنطقة والجماعة الحوثية.
إن الحديث في هذه المشكلة يطول ويتشعب لكن ملخص الكلام أن التوترات الأخيرة في منطقة الوادي والصحراء كانت متوقعة، وهي ثمرة طبيعية لوضع معوج لم يُلتّفَت لتصويبه على مدى ثلاثة عقود متواصلة.
وفي نهاية هذه التناولة يمكن الإشارة إلى النقاط المهمة التالية:
1. إذا ما صدقت الأنباء التي تقول أن جنود وضباط قيادة المنطقة العسكرية الأولى قد اندحروا بشكل فردي ودونما أية مواجهة مسلحة، فإن هذا يعدُّ مؤشراً طيباً وقراراً عقلانيا ومسؤولاً على القوات الجنوبية الواصلة إلى منطقة الوادي التعامل معه بإيجابية من حيث احترام الأفراد والقادة الذين سيلتقون بهم عند الوصول إلى نقاط ومعسكرات المنطقة.
2. إن المنطقة العسكرية الأولى تشمل مساحةً واسعةً تقترب من حوالي ربع مساحة الجمهورية اليمنية، وثلث مساحة الجنوب، وبالتالي فإن من المهم استكمال التعامل مع مناطق الصحراء والوادي ومناطق محافظة المهرة بمسؤولية وحرص على طريق استقرار واستتباب الأوضاع للتفرغ لمواجهة الجماعات الإرهابية وتثبيت الاستقرار وتطبيع الأوضاع وبدء عملية البناء والإعمار والتنمية.
3. سيحتم الوضع الجديد على القوات الجنوبية التعامل بالتكامل مع السلطة المحلية في المحافظة والمديريات بقيادة المحافظ ومدراء المديريات التي وصلت إليها القوات الجنوبية.
4. ومن المهم هنا وبعد تثبيت الأوضاع أن تتولى النخبة الحضرمية مهمة الإدارة الأمنية والعسكرية لمناطق الوادي والصحراء وهو ما ينطبق على محافظة المهرة، وينبغي تعزيز النخبتين الحضرمية والمهرية بالمزيد من الإمكانيات البشرية والعتاد المادية واللوجستية.
وللحديث بقية
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news