تصاعد غير مسبوق للضرائب والجبايات في مناطق الحوثيين… توسّع مالي خارج القانون ينهك الاقتصاد والمجتمع
تتوسع الضرائب والجبايات في مناطق سيطرة الجماعة بوتيرة غير مسبوقة، حتى تحولت إلى منظومة مالية ضخمة تستهدف كل القطاعات تقريباً دون استثناء. ولم يعد هذا التوسع يجري ضمن إطار قانوني أو تحت رقابة مؤسسية، بل أصبح جزءاً من سياسة مالية موازية تُدار بشكل مركزي لخدمة مصالح خاصة، بعيداً عن الأهداف الطبيعية للضرائب المتمثلة في تمويل الخدمات العامة وتحقيق العدالة الاجتماعية. ومع مرور الوقت، بات المواطنون يشعرون بأنهم محاصرون بمنظومة جباية لا تتوقف عن ابتكار وسائل جديدة لتحصيل الأموال، فيما تتقلص الخدمات، وتتدهور الظروف المعيشية، ويتعاظم الغلاء دون أي رؤية اقتصادية واضحة.
ومن أبرز مظاهر هذا التمدد غير القانوني للجباية فرضُ رسوم وضرائب جديدة على قطاعات حيوية، بما في ذلك القطاع الصحي، حيث تُفرض نسب مختلفة على العمليات الطبية في المرافق الخاصة، بينما تُعفى منشآت تابعة لجهات نافذة، الأمر الذي خلق بيئة غير عادلة تزيد من تدهور النظام الصحي. وينسحب الوضع ذاته على قطاع الاتصالات الذي شهد ارتفاعات متكررة في الرسوم المفروضة على الخدمات المختلفة، بما في ذلك الهاتف النقال والدولي والمحلي، إضافة إلى الزيادات الكبيرة على ضرائب السلع الاستهلاكية مثل التبغ.
وتتسع الجبايات لتشمل قطاعات أخرى، فمع القرار بزيادة الرسوم الجمركية على السلع الواردة عبر الموانئ، تضاعفت تكاليف المواد الأساسية، وارتفعت الأسعار بشكل مباشر، ما أضاف أعباء جديدة على المواطنين. حتى الزراعة —القطاع الذي يعتمد عليه ملايين اليمنيين— لم يسلم، حيث فُرضت رسوم إضافية على بعض المحاصيل دون تقديم أي خدمات أو تسهيلات للمزارعين، الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة أعباء مفروضة لا يمتلكون القدرة على تحملها.
أما قطاع الوقود فيعدّ الأكثر استهدافاً نظراً لحساسيته وتأثيره الواسع، حيث تُفرض رسوم غير معلنة على كل لتر مستورد، ما يؤدي إلى ارتفاع فوري في الأسعار وانعكاس ذلك على كل القطاعات الخدمية والإنتاجية، في ظل غياب تام للشفافية حول مصير هذه العائدات التي كثُر الحديث عن استخدامها في تمويل أنشطة عسكرية بدلاً من توجيهها نحو تحسين مستوى الخدمات العامة.
تزامنت هذه الزيادات الضريبية والجمركية مع تعديلات غير قانونية على منظومة القوانين المالية، بما في ذلك خفض الحد الأدنى لتصنيف المكلفين، ما أدى إلى دخول آلاف المنشآت الصغيرة في دائرة الجباية المكثفة. هذا الأمر لم يقتصر على المنشآت الكبيرة أو المتوسطة، بل طال ورش العمل والمحلات الصغيرة التي أصبحت ملزمة بدفع ضرائب مرتفعة لا تتناسب مع حجم نشاطها ولا مع قدرتها على الاستمرار، الأمر الذي تسبب في إغلاق الكثير منها أو نقل أعمالها إلى مناطق أخرى.
ويترافق هذا التوسع في الجبايات مع إنشاء منظومات مالية جديدة تعمل خارج الإطار الرسمي، أبرزها الهيئات التي تتولى جمع الضرائب والزكاة، والتي تُدار بطريقة تجعلها بمنأى عن الرقابة والمساءلة. وقد تحولت الزكاة، بعد إعادة هيكلة إدارتها، إلى مصدر دخل ضخم، بينما ظل المواطنون يشتكون من غياب الإنفاق على الفقراء والمحتاجين، في الوقت الذي تتكرر فيه التقارير التي تؤكد أن هذه الأموال تُستخدم لتمويل أنشطة أخرى غير تلك المعلنة.
كما برزت مشكلة "الخُمس"، الذي فُرض على الثروات، ما أثار استياء واسعاً لأنه يميّز فئة معينة ويمنحها امتيازات مالية خارج إطار الدستور والقانون، ويعمّق حالة التفاوت والاحتقان داخل المجتمع. ومع توسع هذه السياسات، أصبحت الجباية أداة لترسيخ السيطرة وليس وسيلة لتنمية الموارد العامة.
وفي ظل هذه الظروف، يتحدث العديد من التجار وأصحاب المنشآت عن ممارسات تتضمن التهديد بالإغلاق أو السجن أو مصادرة البضائع في حال رفض دفع مبالغ إضافية تحت مسميات مختلفة. هذه التجارب تتكرر على نطاق واسع، ما يعكس غياب القانون وهيمنة الفوضى المالية، ويجعل بيئة الأعمال واحدة من الأكثر صعوبة في المنطقة، الأمر الذي دفع عدداً متزايداً من المستثمرين ورجال الأعمال إلى مغادرة البلاد أو تقليص نشاطهم، وهو ما أسهم في موجة جديدة من البطالة وتراجع النشاط الاقتصادي.
ولا تقتصر آثار هذه السياسات على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تمتد إلى الجانب الاجتماعي أيضاً، إذ يتسبب تراكم الأعباء المالية وارتفاع الأسعار في زيادة معدلات الفقر التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، وتآكل القدرة الشرائية للسكان، وتراجع مستوى الخدمات الأساسية كالطاقة والتعليم والصحة. كما دفع الوضع المتدهور كثيراً من الأسر إلى بيع ممتلكاتها أو الاعتماد على الحوالات الخارجية للبقاء على قيد الحياة.
ومع استمرار هذه السياسات دون أفق واضح أو معالجات، يبدو أن الجبايات قد تحولت إلى بنية دائمة في منظومة الحكم، وإلى وسيلة رئيسية لإدارة الواقع الاقتصادي، في غياب أي مشروع تنموي أو وطني حقيقي. كما أن غياب الرقابة المؤسسية والقانونية يجعل من الصعب إصلاح هذا الوضع أو إعادة توجيه الموارد نحو تنمية مجتمعية حقيقية.
ومجمل هذه الممارسات يؤكد أن الجباية في صورتها الراهنة لا تسهم في بناء استقرار اقتصادي أو اجتماعي، بل تزيد من تآكل الاقتصاد وتضر بالنشاط التجاري، وتعمّق معاناة المواطنين الذين يُرغمون على دفع ضرائب غير قانونية مقابل خدمات شبه معدومة. ومع غياب بوادر التغيير، يخشى الكثيرون أن تستمر هذه السياسات في استنزاف مقدرات المجتمع، وأن تتحول إلى حالة طبيعية يصعب تجاوزها مستقبلاً، في وقت يشهد فيه اليمن واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية والاقتصادية في تاريخه.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news