جمود الأزمة اليمنية… وطن معلّق بين حرب لا تُحسم وسلام لا يأتي
قبل 1 دقيقة
في ظل الجمود السياسي الذي يخيم على المشهد اليمني منذ سنوات، بات شائعاً لدى الكثير من المواطنين —وربما الغالبية الساحقة منهم— الاعتقاد بأن الهدوء النسبي الحاصل في الأزمة ليس سوى استسلام للأمر الواقع. يظن البعض أن ما يشبه السكون الذي يلفّ البلاد هو بداية لانحسار الحرب، وأن الأطراف المتصارعة قد اكتفت بما لديها من مناطق نفوذ وسلطة، وأن الزمن كفيل بإطفاء جذوة الصراع دون تفاهمات حقيقية أو اتفاقات واضحة. غير أن هذا الاعتقاد لا يعدو كونه وهماً مريحاً، يغطي على حقيقة أشد تعقيداً وخطورة، تتمثل في أن الجمود الحالي ليس مجرد توقف للمعارك، بل حالة
معلّقة
بين الحرب واللاحرب، وهي حالة أكثر فتكاً بمستقبل اليمن من أي صدام مسلح.
فالحرب —على قسوتها وتكاليفها المدمرة— تفضي في نهاية المطاف إلى حسم أو تسوية أو تغيير في موازين القوى. أما المرحلة الرمادية التي نعيشها اليوم، فهي أشبه بفراغ سياسي خانق، يمتص طاقة البلاد، ويطيل عمر الأزمة دون أن يترك مجالاً لنتائج حقيقية أو مسار واضح نحو الحل. إنها حالة من "التثاؤب الوطني" الذي يشلّ مؤسسات الدولة ويثقل كاهل المواطن، ويجعل البلاد معلّقة بين ماضٍ مؤلم ومستقبل مجهول.
ومما يزيد المشهد قتامة، أن معظم المواطنين باتوا يعتقدون أن طرفي الأزمة —الشرعية والانقلاب— يتعاملان مع الوضع الراهن بنوع من القبول أو ربما التكيف القسري. فكل طرف يملك مساحة من السيطرة تكفيه للبقاء، لكنه لا يملك ما يكفي من قوة أو إرادة لتحقيق الحسم. ومع مرور الوقت، يتآكل الأمل الشعبي في أي حل جذري، وتزداد قناعة الناس بأن الأطراف المتنازعة نفسها تعيش حالة من العجز واليأس، وكأن الأزمة قد تحولت إلى واقع جديد فرض نفسه على الجميع.
يمكن تشبيه الوضع الراهن بأطراف متخاصمة جمعتها غرفة واحدة، وكل طرف مقيد إلى جدار، ينظر إلى الآخر بعين الريبة، لكنه عاجز عن التقدم خطوة واحدة. لا أحد قادر على الحركة، ولا أحد يملك أدوات المناورة، لكنهم جميعاً ينتظرون ضوءاً ما أو فرصة ما أو تراجعاً ما يسمح لهم بالتحرك من جديد. إنها لحظة تعطّل كاملة، يشترك فيها الجميع بلا استثناء.
غير أن الصورة —على ضعفها— لا تكتمل دون الإشارة إلى الطرف الوحيد المستفيد من هذا الوضع. فهناك لاعب غير مرئي، يقف في منتصف المشهد، يتنقل بين الأطراف بثقة، يطمئن هذا حيناً ويعد ذاك حيناً آخر، بأنه سيكون المنتصر في النهاية. طرف لا يظهر بشكل مباشر لكنه حاضر بقوة في كل تفاصيل الأزمة، يمسك بخيوط اللعبة، ويوجهها حيث يشاء. وقد نجح هذا الطرف في جرّ الأطراف اليمنية إلى مربعات الصراع، ثم إلى الجمود، حتى فقد الجميع القدرة على التأثير الفعلي.
إن أخطر ما وصلت إليه الأزمة اليمنية اليوم ليس الحرب ذاتها، بل تحوّل اليمنيين —بكل قواهم ونخبهم السياسية— إلى مجرد أدوات تعمل ضمن حسابات خارجية أكبر منهم. فقد ضاعت المشاريع الوطنية الحقيقية، وبهتت الشعارات، وتراجع الخطاب الذي كان يراهن على مستقبل مشترك ووطن جامع. وتحوّلت القوى المحلية إلى أذرع تنفذ ما يُملى عليها، بعد أن فقدت القدرة على رسم مسار مستقل أو امتلكت رؤية وطنية جامعة يمكن البناء عليها.
إن الاعتراف بهذه الحقيقة المؤلمة —مهما كان ثقيلاً— بات ضرورة. فمصير البلد لم يعد بيد القوى التي تتظاهر بالعنفوان، ولا بيد الأطراف التي تتبادل الاتهامات، ولا بيد من يمتلك السلاح أو النفوذ. الجميع، دون استثناء، واقعون تحت سقف ضيّق من الإرادة المقيدة، وأصبحوا جزءاً من صراع أكبر لا يملكون فيه حق اتخاذ القرار. وهذا ما يجعل الأزمة أكثر استعصاءً، ويجعل الحل الوطني الصرف أقرب إلى المعجزة ما لم تتغيّر موازين القوى أو تُخلق إرادة سياسية جديدة تتجاوز هذا المأزق التاريخي.
ما يزيد المخاوف أن غياب المشروع الوطني الجامع لا يعني فقط استمرار الأزمة، بل يعني أيضاً تراكم الأوجاع وتضخم الخسائر وتبدد ما تبقى من الثقة بين المواطن والدولة. فبدون رؤية وطنية جادة، لن يكون هناك مستقبل واضح، ولن تتمكن أي سلطة —مهما كانت قوتها— من إعادة بناء الدولة أو انتشال المجتمع من مستنقع التدهور الاقتصادي والأمني والاجتماعي الذي يغرق فيه يوماً بعد يوم.
إن استمرار الوضع كما هو عليه اليوم، يعني عملياً أن اليمن ماضٍ نحو مزيد من التشظي والضعف، وأن القوى الداخلية عاجزة عن كسر الحلقة المفرغة دون تدخل خارجي أو تغيرات مفاجئة. والأخطر من ذلك، أن هذا الجمود يخلق بيئة خصبة للنفوذ الخارجي، ويتيح للأطراف غير الوطنية لعب أدوار أكبر في تقرير مصير البلد.
ختاماً، فإن بقاء الأزمة على هذه الوتيرة سيكلف اليمنيين الكثير، ليس فقط على مستوى الزمن الضائع، بل على مستوى تآكل الدولة واهتراء المجتمع، وضياع كل ما يمكن البناء عليه للمستقبل. إن غياب المشروع الوطني الحقيقي هو الخطر الأكبر، وهو الثقب الذي يتسرب منه كل ما تبقى من أمل. وما لم تدرك القوى اليمنية أنها أصبحت جزءاً من لعبة أكبر منها، وأن عليها استعادة قرارها وإرادتها والالتفاف حول مشروع وطني جامع، فإن الأزمة لن تتوقف، بل ستزداد تعقيداً، وربما تصبح سمة دائمة من سمات البلاد، لا تملك الأجيال القادمة سوى دفع ثمنها.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news