بشرى العامري:
يقف المشهد اليمني اليوم عند أخطر مفترق في تاريخه الحديث، بلدٌ أنهكته الحروب، وتتنازعه ثلاث قوى رئيسية تمسك به من أطرافه في مثلثٍ مأزوم الأضلاع: شرعيةٌ تترنح، وميليشيا تختنق، وانتقاليٌّ تائه في فضاءٍ بلا بوصلة.
شرعيةٌ تبحث عن حضور
منذ إعلان نقل السلطة في أبريل 2022، بدا أن “مجلس القيادة الرئاسي” قد وُلد وسط ظروفٍ غامضة، أقرب إلى ترتيبات اضطرارية منه إلى عملية سياسية متكاملة. الإعلان الذي جاء ببيانٍ مقتضب من الرياض حمل في طياته ملامح أزمةٍ أكثر مما حمل وعودا بالحل، إذ بدا وكأنه وداعٌ هادئٌ للرئيسٍ هادي الذي تنازل بصمت، وتسليمٌ لسلطةٍ موزعةٍ بين ثمانية رجالٍ تفرّقوا في الولاءات والانتماءات.
وبعد ثلاث سنوات ونيف على تشكيل المجلس، ما تزال حالة الشلل هي السمة الأبرز، فبدل أن يكون المجلس نقطة انطلاق نحو توحيد القرار، تحوّل إلى ساحةٍ لتقاسم النفوذ والمناصب، وغابت عنه الرؤية الوطنية الواضحة.
تراجع الأداء الحكومي إلى أدنى مستوياته، وتفاقمت الأزمة الاقتصادية، حتى بات المواطن لا يعرف أسماء وزرائه، والوزراء أنفسهم لا يجتمعون إلا نادرا. الرواتب لا تسلم، العملة معلقة، والبلد يعيش على حافة الإفلاس.
وفي الجغرافيا، تمددت مناطق النفوذ وتعددت مراكز القوة، مأرب اعتصمت بثروتها وسلطتها المحلية وسلطانها، المخا تحولت إلى كيانٍ منفصلٍ عن محيطها، حضرموت تتأرجح على حافة الانقسام، سقطرى في عزلةٍ تامة، وعدن تستيقظ كل صباح على أصوات السلاح. أما تعز، فتبقى جرحا مفتوحا، محاصرة بالخذلان والنسيان، لا الدولة تراها، ولا العالم ينصفها.
مليشيا الحوثي.. اختناق القوة
في الضلع الآخر من مثلث السلطة، يواصل الحوثيون قبضتهم الحديدية على صنعاء والمناطق التي يسيطرون عليها، لكن هذه القبضة، رغم قسوتها، لم تعد تمنحهم الأمان، إذ باتت الجماعة تختنق بما صنعت.
فقدت معظم قياداتها البارزة، وتراجعت قدرتها على تمويل الحرب، بينما تحولت مناطقها إلى فضاءٍ خانقٍ للمدنيين الذين أنهكتهم الجبايات والانتهاكات.
يبتز الحوثيون المنظمات الإنسانية باسم “الاحتياج”، ويقمعون المجتمع المدني باسم “الثورة”، فيما تتهاوى شعارات “الصمود” تحت وطأة الأزمات المعيشية.
أما طهران، التي كانت سندهم، فهي غارقة في أزماتها، والإقليم لم يعد ينظر إليهم إلا كعبءٍ سياسيٍ وأمني، والعالم يصنفهم ضمن الجماعات الإرهابية التي تهدد الملاحة الدولية والاستقرار الإقليمي.
الانتقالي.. بين الخطاب والواقع
أما المجلس الانتقالي الجنوبي، فقد استنفد رصيده السياسي بخطابٍ قائمٍ على الكراهية والانغلاق.
تحوّل من حاملٍ لمطلبٍ شعبيٍّ إلى كيانٍ يغرق في صراعات داخلية، رافضا كل ما يوحّد اليمنيين أو يجمع كلمتهم.
وبدل أن يكون جسرا نحو دولةٍ اتحاديةٍ عادلة، أصبح جزءا من مأزق الانقسام، يضيّع البوصلة بين الهوية الوطنية ومشاريع التشطير.
بلدٌ يواجه التصدّع
تتشابك هذه الأضلاع الثلاثة في مشهدٍ مأساويٍّ واحد،
انهيار اقتصادي، انفلات أمني، صراع نفوذ، وتآكل في مؤسسات الدولة.
وتبدو القوى اليمنية جميعها أسيرة مصالحها الضيقة، بينما تزداد معاناة الناس في كل المحافظات، من عدن إلى صنعاء، ومن تعز إلى صعدة.
لقد تحوّل اليمن إلى بلدٍ يتنفس الرماد، تقتاته الميليشيات وتتنازعه الأجندات الإقليمية والدولية.
وفي ظل هذا الانسداد، يبقى السؤال الأهم، هل يمكن لليمن أن ينهض من ركامه، ويعيد بناء سلطته الوطنية على أسس العدالة والمواطنة والمصالحة؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب شجاعة سياسية وضميرا وطنيا حيّا لم يُطفأ بعد، يعيد الاعتبار لفكرة الدولة، قبل أن يبتلع الفراغ ما تبقى من وطنٍ أنهكته الحروب والخيبات.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news