في زمنٍ تتشابك فيه المسافات وتتلاشى فيه الحدود بين الأوطان، يطلّ وجهٌ مصريٌّ بنَفَسٍ يمنيٍّ خالص، يحمل في ملامحه حنين سبعة عشر عاما قضاها بين جبال تعز ووديانها، حيث وُلد وترعرع وعاش أجمل فصول طفولته.
أمير صلاح يونس ناصف، الشاب المصري الذي وُلد في الحادي عشر من يوليو عام 1997 في محافظة تعز، لأسرةٍ مصريةٍ بسيطةٍ حملت في قلبها حب اليمن وأهلها.
نشأ أمير في بيتٍ يفيض علما وفضلاً، فوالده كان إماما وخطيبا لجامع الخير في منطقة الكمب بمديرية صالة لما يزيد عن أربعةٍ وعشرين عاما، وموجها لمدارس القرآن الكريم التابعة للمؤسسة الخيرية لهائل سعيد أنعم، حيث ترك بصماتٍ تربويةً لا تُمحى في نفوس طلابه.
من بين جدران مدارس تعز وأصوات المآذن في أحيائها، حفظ أمير صلاح القرآن وتلقّى علومه، ونال شهاداته الدراسية حتى الثانوية، قبل أن تعصف الحرب بالبلاد عام 2015، فاضطر للعودة مع أسرته إلى موطنه.
كانت تلك اللحظة أشبه بالفراق القاسي بين الروح وجسدها، فتعز التي احتضنته كانت له وطنا قبل أن يعرف معنى الوطن.
لكنّ الحنين لم ينطفئ في قلب أمير. فبينما كان يُكمل دراسته في كلية الحقوق بجامعة طنطا، ظلّ اليمن يسكنه في الذاكرة واللهجة والرائحة.
ومن رحم هذا الشوق وُلدت فكرته النبيلة، برنامج “تجارب شخصية في دول المهجر”، الذي تحوّل مع الوقت إلى جسرٍ إنساني وثقافي يربط بين المعلمين المصريين الذين خدموا في اليمن، وطلابهم اليمنيين الذين ما زالوا يحملون أسماءهم في قلوبهم ودفاترهم.
استطاع أمير عبر برنامجه أن يوثّق رحلة جيلٍ كامل من المعلمين المصريين الذين ساهموا في نهضة التعليم باليمن منذ ثمانينيات القرن الماضي، فجمع أكثر من ألفي معلمٍ ومعلمةٍ، ونقل حكاياتهم إلى العالم من خلال مقابلاتٍ مصوّرةٍ مليئةٍ بالعاطفة والوفاء.
ومن خلال بحثه الميداني، تنقّل أمير بين قرى ومحافظات مصر، من أقصى حدودها مع السودان إلى حدودها مع ليبيا، يسأل ويستمع ويُسجّل، وكأنه يوثّق فصلا مفقودا من ذاكرة التاريخ العربي المشترك.
يقول أمير في أحد تصريحاته “اليمن كانت وما زالت بالنسبة لنا نحن المصريين أرضا للعلم والمحبّة”، مشيراً إلى أن نحو 70 ألف معلم مصري شاركوا في بناء نهضتها بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر المجيد.”
تحوّل برنامج أمير اليوم إلى منصّة تفاعلية حقيقية، إذ تتدفّق عليه يوميا مئات الرسائل من يمنيين داخل الوطن وخارجه، من الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا والخليج، يسألونه عن أساتذتهم المصريين، أو يطلبون المساعدة في الوصول إليهم. بالإضافة إلى رسائل الشكر التي تأتيه من وزراء ومحافظين وأساتذة جامعات يمنيين يعبّرون عن امتنانهم لجيل المعلمين المصريين الذين أسهموا في بناء عقولهم.
ولم تتوقف حكايات الوفاء عند حدود الرسائل، بل وثّق أمير لقاءاتٍ مؤثرة بين طلابٍ يمنيين ومعلميهم المصريين بعد عقودٍ من الفراق، وبعضها عند قبور أساتذةٍ رحلوا، في مشاهدٍ تفيض بالإنسانية وتُعيد إلى الأذهان عمق الروابط التي جمعت بين الشعبين الشقيقين.
تقديرا لجهوده، نال أمير تكريماتٍ عدّة من محافظين مصريين ومن رؤساء جامعات، كما حصد مراكز متقدمة في مجالات البحث العلمي والعمل المجتمعي، ليصبح نموذجا يُحتذى به في الوفاء والاعتراف بالجميل.
وهكذا يمضي أمير صلاح في رحلته التي تجاوزت حدود الجغرافيا لتصل إلى وجدان الملايين، مؤمنا بأن ردّ الجميل لا يكون إلا بحفظ الذاكرة وصون الودّ.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news