مشاهدات
لا يتوقف هوس المستثمرين باقتصاد الذكاء الاصطناعي متمثلاً في ضخ مئات مليارات الدولارات في مشروعاته الناشئة، الأمر الذي جعله أكثر القطاعات نمواً في الأسواق الأميركية منذ بداية العام الجاري. ورغم أن الذكاء الاصطناعي لم يؤتِ ثماره كاملة حتّى الآن، فقد أصبح من الواضح أنه سيكرس لتباين واسع بين الرابحين والخاسرين.
يتمثل أحد المخاوف فيما يمكن أن يصيب العالم من بطالة حين تختفي بعض الوظائف من الوجود ليقوم بها الذكاء الاصطناعي، وماذا يمكن أن يحدث في الاقتصادات المتقدمة حين تعجّ بجيوش العاطلين؟ لا يقتصر الأمر على ذلك، لكنه يبدأ من الفجوة التي تخلقها مشروعات الذكاء الاصطناعي في المناطق التي تعمل فيها، على سبيل المثال حين تلتهم مراكز البيانات بما تستهلكه من كميات هائلة من الكهرباء والمياه، إنتاج الطاقة والمياه الذي تحتاجه المجتمعات المحلية، ومرافقها من مستشفيات ومدارس ومصانع.
الصورة تبدو قاتمة بالفعل، ليس للعمال المهدّدين بفقد وظائفهم فحسب، ولكن حتّى لبعض المستثمرين وصناع القرار في الدول الصناعية المتقدمة. آخر التحذيرات جاءت على لسان أكسل فيبر، الرئيس السابق لمجموعة يو. بي.إس UBS المالية السويسرية العملاقة، الذي حذر، في تقرير نشرته بلومبيرغ الجمعة، من أنّ موجة التحوّل القادمة بفعل الذكاء الاصطناعي قد تمهّد لظهور نخبة عالمية جديدة تجني أرباحاً غير متكافئة من تبنّي هذه التكنولوجيا المتقدمة، بينما يتراجع وضع بقية الناس.
وقال فيبر، الذي شغل أيضاً منصب رئيس البنك المركزي الألماني سابقاً، خلال ندوة في قمة بوند في شنغهاي يوم الجمعة "سنشهد أشخاصاً يجنون فوائد هذه التكنولوجيا الجديدة بطريقة لم نرَ مثلها من قبل. كما رأينا سابقاً أرستقراطية التكنولوجيا والمليارديرات، سنرى الآن أرستقراطية الذكاء الاصطناعي".
ويخشى فيبر، البالغ من العمر 68 عاماً، من أن تؤدي هذه التكنولوجيا إلى فقدان واسع للوظائف، وأن تُفاقم الفجوة بين أولئك القادرين على العمل مع الذكاء الاصطناعي وأولئك الذين سيفقدون وظائفهم بسببه. وللتصدي لخطر تفاقم عدم المساواة، دعا فيبر الحكومات إلى وضع سياسات تتيح إعادة تدريب العمال وتكييف اقتصاداتها مع التحوّل الجاري، بدلاً من الاكتفاء بفرض ضرائب على القطاع، وقال: "إذا أخطأنا في هذا المسار، أعتقد أنّنا سنُخرج عدداً أكبر من البشر من سوق العمل مقارنة بأي تكنولوجيا سابقة جرى اختراعها"، كما أعرب فيبر عن قلقه تحديداً تجاه كبار السن من العاملين الذين قد يواجهون صعوبة أكبر من الشباب في التكيّف مع الاقتصاد المتحوّل بفعل الذكاء الاصطناعي.
هذه المخاوف، التي لا تلقى آذاناً صاغية في أسواق الأسهم، اكتسبت مزيداً من الزخم الآونة الأخيرة، فبينما يخشى المستثمرون من حدوث فقاعة قد تؤدي إلى فقدان المليارات على غرار ما حدث في فورة "الدوت كوم" أوائل الألفية الثالثة، ينظر الاقتصاديون إلى ما هو أبعد من ذلك، أي الآثار الاجتماعية التي سيخلقها شيوع الذكاء الاصطناعي على تركيبة المجتمعات الحديثة. في وقت سابق من العام الجاري، حذرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، من أن الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى اتّساع الفوارق الاجتماعية وتقويض النموذج الاجتماعي الأوروبي. في المقابل، قال أندرو بيلي، محافظ بنك إنكلترا، هذا الشهر إنّ ظهور الذكاء الاصطناعي لن يؤدي إلى موجة من فقدان الوظائف في المملكة المتحدة، واصفاً إياه بأنه "المرشح الأبرز لأن يكون محرك دورة الابتكار الكبرى المقبلة".
هذه التعليقات المتواترة تشير إلى تهديد حقيقي لنمط من علاقات العمل ظل قائماً لقرون، وربما كانت تعليقات سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة أوبن إيه آي OpenAI صاحبة تشات جي بي تي، أبرز تطبيقات الذكاء الاصطناعي بالنسبة للجمهور العادي، جرس إنذار جاء متأخرا. ألتمان الذي يجمع مليارات الاستثمارات لمشروعه العملاق "ستارغيت"، الذي بشر في السباق بأن هذه التكنولوجيا ستؤدي لتقليص عدم المساواة العالمية، عاد وحذر على مدونته الشخصية في فبراير الماضي من أن "التغيّرات طويلة الأمد في مجتمعنا واقتصادنا ستكون هائلة"، مضيفاً "يبدو أن توازن القوة بين رأس المال والعمل قد يختلّ بسهولة، وقد يتطلّب ذلك تدخلاً مبكراً".
على حساب الآخرين
يمثل الاستثمار في مراكز البيانات Data Centres الحيوية لاقتصاد الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، إحدى تجلّيات الظاهرة. فشركات مثل أوبن. إيه. آي، وأمازون وغوغل ومايكروسوفت تستثمر مئات المليارات في بناء مواقع حوسبة عملاقة، بعضها على الأراضي الأميركية، وكثير منها في دول أخرى حيث التكاليف أرخص والتدقيق أقل.
وينقل تحقيق لنيويورك تايمز عن تحليل أجرته مجموعة سينرجي للأبحاث، أن حوالى نحو 60% من أكبر 1,244 مركز بيانات في العالم كانت خارج الولايات المتحدة حتّى نهاية يونيو الماضي. وهناك المزيد قيد الإنشاء، إذ يجري حالياً تطوير ما لا يقل عن 575 مشروع مركز بيانات حول العالم من شركات مثل تينسنت وميتا وعلي بابا.
ويؤدي توسّع هذه المراكز، التي تتطلب كميات هائلة من الكهرباء لتشغيل الحواسيب والمياه لتبريدها، إلى المساهمة أو التسبب في تفاقم اضطرابات بيئية وخدمية ليس فقط في المكسيك، بل في أكثر من 12 دولة. في أيرلندا، تستهلك مراكز البيانات أكثر من 20% من كهرباء البلاد. وفي تشيلي، تتعرض المياه الجوفية الثمينة لخطر النضوب. أما في جنوب أفريقيا، حيث انقطاع الكهرباء أمر معتاد منذ سنوات، فتزيد مراكز البيانات من الضغط على شبكة الكهرباء الوطنية، وقد وظهرت مخاوف مشابهة في البرازيل وبريطانيا والهند وماليزيا وهولندا وسنغافورة وإسبانيا.
ويشير تحقيق نيويورك تايمز إلى أنّ هذه المشكلات تفاقمت بسبب غياب الشفافية، إذ غالباً ما تبني شركات التكنولوجيا الكبرى مثل غوغل وأمازون ومايكروسوفت مراكز بياناتها من خلال شركات تابعة أو مزوّدي خدمات، ما يخفي وجودها ويجعل من الصعب معرفة حجم الموارد التي تستهلكها. وفي الوقت نفسه، تتسابق الحكومات في أنحاء العالم للحصول على موطئ قدم في مجال الذكاء الاصطناعي، مقدّمةً أراضٍ رخيصة وإعفاءات ضريبية وتسهيلات في الموارد، مع اتباع نهج متساهل في التنظيم والرقابة.
تقول شركات التكنولوجيا إنها تسعى إلى بناء مراكز البيانات لتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي الجديدة وخلق ما يسمى بـ"الذكاء الخارق"، الذي يتجاوز قدرات الدماغ البشري، مؤكدةً أن هذه المشاريع تخلق فرص عمل واستثمارات، وأنها تعمل على تقليص بصمتها البيئية من خلال توليد طاقتها الخاصة وإعادة تدوير المياه.
وقالت مايكروسوفت إنّها لا تملك معلومات تشير إلى أن مجمع مراكز البيانات الذي أقامته في وسط المكسيك أثّر على إمدادات الكهرباء أو المياه، موضحةً أن الكهرباء في المنطقة غير مستقرة أصلاً، وأنها تستخدم كميات محدودة من المياه بحمل كهربائي يبلغ نحو 12.6 ميغاواط، أي ما يعادل استهلاك 50 ألف منزل مكسيكي تقريباً في السنة.
وقال بوين والاس، نائب رئيس مايكروسوفت لشؤون مراكز البيانات في الأميركيتَين "لقد بحثنا بعمق ولم نجد أي دليل على أن مراكزنا تسببت في انقطاعات كهرباء أو نقص مياه في المنطقة. سنظلّ دائماً نولي احتياجات المجتمع الأساسية أولوية قصوى".
ويقول الخبراء إنّ الربط المباشر بين مراكز البيانات ونقص المياه أو الكهرباء أمر صعب، لكن إقامتها في مناطق تعاني أصلاً من ضعف البنية التحتية يؤدي إلى تفاقم الضغوط ويزيد احتمال حدوث آثار متوالية.
في أنحاء العالم، تجمّع ناشطون وسكان ومنظمات بيئية لمعارضة هذه المشاريع، بعضهم حاول منعها قانونياً، وآخرون سعوا لفرض مزيد من الرقابة والشفافية. في أيرلندا، قيدت السلطات إقامة مراكز بيانات جديدة في منطقة دبلن بسبب "خطر كبير" على إمدادات الطاقة. وفي تشيلي، تراجعت غوغل عن بناء مركز بيانات بعد احتجاجات حذرت من استنزاف المياه. وفي هولندا، أُوقفت مشاريع مماثلة لأسباب بيئية.
تقول روزي ليونارد، الناشطة البيئية في منظمة أصدقاء الأرض – أيرلندا "مراكز البيانات هي المكان الذي تلتقي فيه القضايا البيئية والاجتماعية. هناك رواية تروّج لفكرة أن هذه المراكز ضرورية وستجعلنا أكثر ازدهاراً، لكنّها في الحقيقة تمثل أزمة حقيقية".
لكن المؤشرات، حسب ما تقول الصحيفة، لا تُظهر أي تباطؤ في الأفق: فمن المتوقع أن تُنفق الشركات العملاقة 375 مليار دولار على مراكز البيانات حول العالم هذا العام، لترتفع إلى 500 مليار دولار في 2026، وفقاً لتقديرات بنك يو بي إس.
تُعد أيرلندا نموذجاً واضحا لردة الفعل الشعبية المتزايدة ضدّ مراكز البيانات. فبعد عقود من فتح الأبواب أمام شركات التكنولوجيا العملاقة مثل أبل وغوغل ومايكروسوفت وتيك توك، تغيّر المزاج العام، إذ ارتفعت حصة مراكز البيانات من استهلاك الكهرباء في البلاد من 5% في عام 2015 إلى نحو 33% خلال السنوات المقبلة.
تحذر التجربة الأيرلندية من أنّ مراكز البيانات حول العالم قد تستهلك بحلول 2035 كمية كهرباء تعادل استهلاك الهند، أكبر دول العالم سكاناً، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية، كما يمكن لمركز بيانات واحد أن يستهلك أكثر من 500 ألف غالون من المياه يومياً، أي ما يعادل حوض سباحة أوليمبي تقريباً.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news