ضَيَّعهم برميلُ النفط، فأضاعوا ذاكرتهم الأولى، ونسوا الخيام التي كانت تظلّهم في قيظ الصحراء، والأنسَ حول الأثافي، وبعر الأرام الذي كان أثرَ البداوة ونقاءها، والبقر الوحشي الذي كان صديق البراري، والقفر الذي علّمهم الصبر، والطلل الباكي الذي كان مرآة حنينهم الأول، والرسمَ الدارس الذي حفرته أقدامهم في الرمال ذات مجدٍ عابر. كلُّ ذلك تبدّد حين أقبل البريقُ الأسودُ عليهم، فاستبدلوا صفاء الرمل بوحل المال، وعبقَ السمرِ بصليل الذهب، وحرارةَ الصدقِ ببرد الخيانة.
غرقوا في دهاليز المؤامرات، تأكلهم أطماعهم كما تأكل النار هشيمها، فصاروا يتآمرون على أنفسهم قبل أن يتآمروا على أمتهم، ويشعلون الفتن كما يشعلون قناديل قصورهم، لا يملّون نارًا إلا أوقدوها، ولا جرحًا إلا عمّقوه، ولا وطنًا إلا نهشوه حتى العظم. خرجوا من إنسانيتهم كما تخرج الحيّة من جلدها، لا يأنسون إلا لرنين الدراهم، ولا يسجدون إلا لصنمٍ من نفطٍ وشهوةٍ وسلطة.
هم أولئك الذين نسوا الله، فأنساهم أنفسهم، يحاصروننا في لقمة الخبز، وفي همس أحلامنا، وفي ليلنا الطويل الذي لا ينقضي. يملأون حياتنا خوفًا وألمًا، ويزيدوننا تعبًا فوق تعب، كأنهم خلقوا ليعكروا صفو الوجود، وليزرعوا فينا الشقاء ثم يلوموننا على الحزن.
يا لغرورهم حين يقفون على جراح أشقائهم، ويا لهوانهم حين يقفون أمام الصهاينة صغارًا، أذلاء، خاوين من المروءة! يتفاخرون بالمال، ويجهلون أن المال بلا كرامةٍ رجسٌ من عمل الشيطان. ضيّعهم برميل النفط، فضيّعونا معه، فلا هم صاروا رجالًا للكرامة، ولا تركونا نحيا بحرية العروبة التي يتغنون بها في المهرجانات الفارغة.
نسير نحن في متاهةٍ لا تعرف الاتجاه، نلهث خلف السراب، تتناهبنا الظنون، وتغتالنا الشكوك، وهم يبيعوننا في أسواق المساومة، قطعةً من وطن، أو شظيةً من حلم، أو دمعةَ طفلٍ لا تجد مأوى. جميعهم من طينة الفتك، ومن دم الخراب، لا يلتقون على خير، ولا يعرفون معنى الرحمة، يتناسل الشرّ فيهم كما يتناسل الرمل في الريح.
ونحن، بما تبقّى من كرامةٍ فينا، نفرّ من كل ظلٍّ إلى ظلٍّ أضيق، من وجعٍ إلى وجعٍ أعمق، حتى إذا بلغنا حدود الصبر، أطلّ علينا المتغطرس المتخم، بوجهٍ مدهونٍ بالشفقة الزائفة، يرمقنا من عليائه، يمنّ علينا بنظرةٍ من كبريائه، ويمنحنا الفتات ليبقى سيّد المائدة، ونبقى نحن خدمَ الجوع والتعب.
يا له من قدرٍ مرٍّ، أن نبقى مدمني عذابٍ في زمنٍ يفيض نفطًا ويموت عدلًا، أن نرضى بما قسموه لنا من نكدٍ وشقاء، ونقول في كل مرة: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
غير أنّ لليل مهما طالَ فجرًا يُبشّرُ بالنجاة، وللأرضِ الجريحة نبضًا لا يموت. فمهما تاهت الأمة بين أروقة الخيانة، ومهما خذلها أبناؤها المترفون، سيظلُّ في أطرافها من يُشعل شمعةً في وجه الظلام، ويقول للعتمة: “كفى”.
سيولد من رحم الرماد طفلٌ لا يعرف الخنوع، ينشأ على رائحة التراب لا رائحة النفط، وعلى كلمة “حقّ” لا على فتوى السلطان. سيعيد ترتيب الحكاية من أولها، ويكتب للكرامة فصلاً جديدًا لا يُباع ولا يُشترى.
وسيعلم أولئك الذين طغوا أن ما جمعوه من ذهبٍ سيذوب كملحٍ في عيون الفقراء، وأن قصورهم ستتهدّم تحت وقع أنين الجياع الذين صبروا طويلًا. سيتحوّل النفط الذي عبدوه إلى لعنةٍ تلاحقهم في قبورهم، وسيتحوّل التراب الذي احتقروه إلى وطنٍ ينهض من وجعه، متطهّرًا من رجسهم.
أما نحن — أبناء الوجع والأمل — فسنظلّ نحمل الحلم على أكتافنا، نزرع في العراء بذور الحرية، ونرويها من دموع الصابرين. سنُعيد للإنسان فينا ملامحه الأولى، تلك التي لوّثها طغيانهم، وسنستردّ من الليل فجرًا يليق بمن لم يحنِ رأسه إلا لله.
وحينذاك، حين تتكلم الأرض بصدقها، سيخرس الزيف، ويصمت البغاة، وتعود الأمة إلى قلبها، طاهرةً من دنسِ الخيانة، عاليةً كالنجم، باقيةً كالنور في آخر النفق.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news