كتب / بشرى العامري:
في ذاكرة اليمنيين تختبئ أسماء حاول اعداء التاريخ النضالي طمسها، أو تشويهها لكنها تأبى الغياب.
ومن بين تلك الأسماء، يسطع اسم الثائر سعيد الفقيه، الرجل الذي خرج من بين صفوف البسطاء في محافظة إب ليهز عروش الظلم.
ليس وجود الظلم وحده كافيا ليحرك في الناس روح المقاومة، ولكن ضرورة الإحساس بهذا الظلم ووجود قيادة ملهمة يلتف حولها الناس. ما حدث في اليمن في العقد الرابع من القرن التاسع عشر تقريبا ،حيث عاشت اليمن سنوات جمر من التسلط والقمع شبيهة بما تقوم به ميليشيات الحوثي في هذا الوقت .
شعر الناس بالظلم الشديد، وتنامى التدهور وحالة السخط الواسعة ،فقام رجل من عامة الناس عرف عنه الورع كرجل صوفي وفقيه، وهو سعيد بن صالح بن ياسين المعروف بالهتار أو صاحب الدنوة أو المذحجي فقيه صوفي سكن وعاش في قريته الدنوة غرب محافظة إب .
وكان كل هذا المخلاف من اليمن والذي يشمل اب وتعز هو مخلاف واحد، وحدث في لحظات من مد ونزوح قبائل شمالية من مناطق أقصى الشمال أن انتقل إلى اليمن الأسفل إب وتعز في بداية القرن التاسع عشر الميلادي وأفسدوا فيه، فضجت الناس من فسادهم.
أعلن الفقيه سعيد ثورة ضدهم واجتمع عليه الناس في مناطق اليمن الوسطى اب خاصة وتعز وحاربهم حتى هزمهم وطردهم من الحصون المرتفعة التي كانوا يتحصنون بها، حتى أنه هدم ثلاثمائة حصن من حصونهم في شهر واحد وغنم ما فيها، فهرب جزء منهم وسجن الآخر وكان ممن سجن حسين بن سعيد أبوحليقة و علي بن علي بن سهل الهيال.
واستطاع الفقيه أن يحكم سيطرته على بقاع اليمن الأسفل بتمامه وامتد سلطانه من مدينة زبيد غربا، إلى يافع شرقا، وشمل منطقتي تعز، وإب، وجعل من حصن (الدنوة)، ملاذا آمنا له، ومنطلقا لعسكره.
والدنوة بلدة بين حبيش ونعمان غربي إب كانت قد خربت قبل أن يسكنها الفقيه ويدعو الناس إليها.
أعلن نفسه إمام الشرع المطهر في أول جمعة من رجب. عين الولاة على ما تحت يديه من البلاد، وضرب نقد الفضة باسمه، وخُطب له على المنابر ،وسيرت إليه النذور والزكوات من كل أرجاء اليمن الأسفل من نقيل صيد (سمارة) شمالا حتى عدن جنوبا . وانتشرت بين أهالي تلك البلاد الأهازيج المادحة له مثل قولهم:
(ياباه سعيد ياباه … يا ساكن الدنوة … أسلمتنا المحنة … والعسكر الزوبة … فابقى لنا ياباه).
أنجز الفقيه سعيد ثورة شعبية صادقة والتف حوله الناس ،وبسط حكم رأى فيه الناس العدل والمساواة، وأنهى روح العنصرية حتى انه عفى عن قبائل الشمال التي سكنت مناطق اب وجعل الكل في جيش واحد من اجل دولة عدالة ،لكن حكم الإمامة في عهد الهادي المتوكل في شمال الشمال سير الجيوش التي لم تفلح في قهر جيش الفقيه سعيد ودولته الفتية، حتى حدثت الخيانة من بعض من انضم اليه وقاموا بقتل رموز من مشايخ اب وتعز تت إمرة الفقيه سعيد. وتقول الرواية المشهورة عن تلك الواقعة انه في 1840 .
انقلب النقيب حسين بن سعيد أبوحليقة و سانده النقيب علي بن علي بن سهل الهيال على الفقيه سعيد وكاتبوا الإمام في يريم وأعلموه بأنهم سيقومون بأسر مقادمة جيش الفقيه في خيمتهم وحينها على الإمام الهجوم. استطاعوا أسر مقادمة جيش الفقيه أمثال سعيد أحمد علي وحسين بن يحيى عباد وعبد الله مثنى فاضل وقائد الحارثي وأعلموا الإمام الهادي وطلبوا منه سرعة الهجوم. هجم الإمام الهادي على جيش الفقيه الذي كان حائرا ومشتتا بعد أسر مقادمته وانهزموا رغم كثرة عددهم.
لكن في ذاكرة الناس تبقى ثورة الفقيه سعيد محطة هامة تؤكد على ان يقظة المجتمع وهبته في وجه الطغاة تنهي أسطورة القهر .
وبرغم تكالب قبائل الشمال وحكم الإمامة على الفقيه سعيد واعدامه الا انه نجح في إيقاد شعلة الثورة في النفوس لتثمر بعد ذلك اشراقة الحرية ولو بعد حين.
حاول خصومه كثيراً بعد ذلك أن يمحوا أثره، وأن يلبسوا سيرته ثوب “الخروج” و”التمرد”، لكن الناس حفظوه بطريقتهم الخاصة، وردّدوا اسمه في الأهزوجة الشعبية:
«ياباه سعيد ياباه… يا ساكن الدنوة… أسلمتنا المحنة… والعسكر الزوبة… فابقى لنا ياباه».
لم يمت سعيد الفقيه، فذكراه باقية تسري على ألسنة الناس حتى اليوم، وفي وجدانهم، بل وتحولت إلى رمز خالد للعدل والمقاومة.
واليوم، لا تزال منطقة دار سعيد، بوادي بناء ومعها مستشفى دار سعيد، وجسر “دار سعيد” الذي يربطها شاهداً على وفاء أبناء إب لثائرهم الأول، الذي حاول الطغاة محو تاريخه، فخلّدته الأرض والذاكرة الشعبية على مرّ الأجيال.
وتم اختيار هذه المنطقة لتكون على اسمه بوعي كونها ذات أهمية تاريخية عريقة، إذ تجمع بين عمق الجذور الحضارية لليمن القديم وآثار الحقبة الحميرية التي لا تزال شواهدها ماثلة في النقوش، وبقايا المعمار القديم.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news