لم تكن جريمة اغتيال، افتهان المشهري، مديرة صندوق النظافة في محافظة تعز، مجرد جريمة فردية طالت امرأة كفوة نذرت نفسها لخدمة مدينتها، بل تمثل آخر محاولة لتجسيد معنى مؤسسات الدولة في مدينة يحكمها الفساد والفوضى.
تكشف الجريمة عن عمق أزمة تعيشها مدينة تعز،
وليس مشكلة تخص ضحية واحدة وقاتل واحدـ بل
تجسيداً لمعضلة أوسع، تقاسم نفوذ، انفلات أمني، انتشار السلاح، تغاضي قيادات متنفذة، وتفتت الأجهزة الرسمية.
فاغتيال المشهري لم يكن استهدافاً لامرأة فحسب، بل كسرٌ لصورة تعز المدنية، وضرب ثقة المجتمع بالدولة، وزرع الخوف في قلوب الرجال قبل النساء، وقدّم المدينة كمنطقة خاضعة للعصابات، لا كعاصمة ثقافية ومدنية، وفق مراقبين.
وكان مسلحون قد اغتالوا المشهري، صباح أمس الخميس، في أحد شوارع مدينة تعز، في ظل صدمة كبيرة طالت المدينة وسكانها.
وشهدت مدينة تعز، اليوم الجمعة تظاهرات حاشدة أمام مبنى المحافظة بشارع جمال، تنديدا بجريمة اغتيال المشهري، وللمطالبة بسرعة القبض على القتلة وتقديمهم للعدالة.
ورفع المتظاهرون لافتات عبّرت عن استنكارهم للجريمة، متهمين السلطات المحلية والأجهزة الأمنية بالتقصير في حماية كوادر الدولة، مؤكدين أن اغتيال المشهري يمثل "اعتداءً صارخا على مؤسسات الدولة".
ومنذ أمس الخميس، صعّد موظفو وعمال صندوق النظافة والتحسين احتجاجاتهم عبر إغلاق شوارع رئيسية ورمي القمامة في الطرقات، إضافة إلى نصب خيمة اعتصام أمام مبنى المحافظة، لمطالبة السلطات بسرعة القبض على القتلة.
وفي وقت سابق اليوم أعلنت شرطة تعز، القبض على المدعو "جسار أحمد قاسم المخلافي" المتهم الرئيسي بقتل مديرة صنـدوق النظافة "افتـهان المشهري".
وتعد هذه الجريمة أول حادثة تطال امرأة في منصب حكومي بالمدينة، وهو ما بعث تخوفات من مخطط جديد يستهدف الكوادر النسائية الفاعلة في المجتمع.
افتهان المشهري في سطور
تولت إدارة صندوق النظافة والتحسين في تعز قبل نحو عامين.. في أكتوبر 2023 تحديدا، وكانت كتلة من النشاط والحماس والحيوية. وحاولت تثبت أن المرأة اليمنية قادرة على صنع الفارق.
نجحت المشهري في تثبيت 1156 عامل نظافة، وأسست صندوق التكافل من أجل تعز وأنجزت تأسيسه فعليا وبرامجيا، كما اعتمدت إجازات مدفوعة الأجر وزيادة المرتبات 20 ألف ريال إضافية، ذاهبة بطموحاتها بتلك الخطوة إلى تحقيق بيئة تعزية نظيفة ومستدامة والسعي لجعل تعز محافظة عصرية جميلة ونظيفة.
وقبل ذلك كانت هي مديرة إدارة المكتبات في جامعة تعز، وإحدى القيادات الإدارية البارزة في الجامعة، حيث تقلدت خلال مسيرتها العملية عدة مناصب إدارية أسهمت من خلالها في خدمة الجامعة وتطوير العمل الإداري فيها بكل تفان وإخلاص.
لم تستسلم لظروف الحرب وضغوط العمل، بل واصلت طموحها العلمي، وفي يونيو الماضي حصلت افتهان على درجة الماجستير في إدارة الأعمال التنفيذي بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، من جامعة تعز عن رسالتها الموسومة: "استراتيجية مقترحة لتطوير أداء صندوق النظافة والتحسين بتعز في ضوء مبادئ الحوكمة."
تعز لن يكسرها الإرهاب بل تخاذل المسؤولين
وتعليقا على اغتيال المشهري، قال النائب البرلماني علي عشال، إن "اغتيال المشهري ليست حادثةً عابرة، ولا جريمةً فرديةً تُسجَّل ضد مجهول؛ بل اغتيال لروح المدينة بأكملها، وطعنة غادرة في خاصرة إنسانيتها المتعبة.
وأضاف أن "تعز لن يكسرها الإرهاب والعبث، لكن الذي سيكسرها هو تَخاذُل المسؤولين فيها، وتقصير الأجهزة الأمنية عن القيام بواجبها، وإهمال سلطات الدولة في تقديم الدعم اللازم لها".
وتابع "الأستاذة إفتهان المشهري عُرفت بإخلاصها وتفانيها في عملها، لم تكن تملك سوى راية النظافة ترفعها وإرادة الحياة والتغيير، تنظّف الشوارع بروحها قبل أن تنظفها بجهد عمّالها، وتحاول أن تزرع في وجه المدينة المرهق شيئًا من البهاء والنظام. لم تحمل سلاحًا، ولم تُشعل فتنة، بل حملت همّ الناس ورسالة الجمال في مدينة أرهقها الحصار والخراب".
وتساءل عشال بالقول: أيُّ يدٍ هذه التي امتدّت لتُطفئ شعلة الأمل؟ وأيُّ قلبٍ ذاك الذي تجرد من كل إنسانية ليُطلق النار على امرأة لم تملك إلا الإخلاص لمدينتها؟ مردفا "إنها ليست جريمةَ قتلٍ لامرأةٍ فحسب، بل جريمةُ اغتيالٍ للقيم، للضمير، ولما تبقّى من شرف المسؤولية في واقعٍ ينهشه الفساد والفوضى".
وأكد أن هذه الجريمة يجب ألا تُترك للزمن ليطويها، ولا للبيانات الرسمية الباردة لتخدّرها، بل يجب أن تتحوّل إلى محاكمة مفتوحة للعبث وللعابثين، ومحاكمةٍ للمسؤولين الذين قصّروا في واجبهم ولم يؤدّوا مهامهم".
وقال إن "دماء إفتهان لا ينبغي أن يطويها النسيان، بل يجب أن تكون علامةً فارقة تقول لنا: إن تعز تحتاج إلى صحوة، إلى موقفٍ جادٍّ من كل صاحب ضمير من أبنائها، إلى وقفة شرفٍ لا تقلّ عن شرف تلك المرأة التي اختارت أن تكون خادمةً لمدينتها، فاختارها الغدر شهيدةً لها".
اعتداء على إرادة الدولة ومحاربة الفساد
وزير الشباب الرياضة نائف البكري قال إن "اغتيال المشهري لا يمسّ أسرتها ورفاقها فحسب، بل يمثل اعتداءً صارخًا على إرادة الدولة وهيبتها، ومحاولة يائسة لعرقلة مسار الإصلاح ومحاربة الفساد في المؤسسات".
وأكد البكري أن هذه الجريمة لن تسقط بالتقادم، داعيا الأجهزة الأمنية والقضائية إلى الإسراع في تعقب القتلة ومن يقف وراءهم، وتضعهم أمام العدالة، لتكون الجريمة عبرةً ورادعًا لكل من تسوّل له نفسه استهداف الشرفاء المخلصين".
جبل صبِر يلعنكم وشجرة الغريب تدعو عليكم
وزير الثقافة الأسبق خالد الرويشان كتب "كان المفروض تكون افتهان محافظةً لتعز.. على الأقل، هذه اليمانية العظيمة بألف رجل ممن عرفنا ومن لم نعرف".
وأضاف "سمعتُها فأجهشَتِ الروح وانفطر القلب
،
كانت تريد تنظيفكم وغسلكم وجعلكم أوادم، فقتلتموها، افتهان المشهري لم تكن بحاجة لوظيفة أو لمال فأوكلتم إليها أصعب مهمة فنجحت وبدأت بالانجاز، فتم عقابها واغتيالها في أبشع صورة من أبشع كائنات الأرض".
وأردف "لن تقوم لكم قائمة وأنتم تدارون وتتسترون على قتلة ملائكة وأنبياء تعز، وبعض ضحاياكم من أعز أصدقائي، أغمضنا عيوننا مراراً وتكراراً .. لعل وعسى .. لاحباً بكم ولكن كراهيةً للإمامة المتربصة على أبواب الباب الكبير".
وقال الرويشان "شاهت الأوداج المنتفخة والأجفان المتورمة والرؤوس الدائخة
،
تعز درّة التاج .. سرقتم الدرّة وحطّمتم التاج وأحرقتم الباب والأبواب، قتلتم كل أمل في تحريرٍ أو تنويرٍ أو تثوير
،
تعز الحالمة الحليمة لا تستحقونها منذ سنوات
،
وها أنتم تقتلونها اليوم، فجبل صبِر يلعنكم وشجرة الغريب تدعو عليكم".
انذار مخيف بانهيار منظومة القيم
أما النائب البرلماني علي المعمري فقال "الاغتيال المروع الذي استهدف المشهري، واحدة من أنبل وأكفأ الطاقات النسائية في تعز، جريمة دنيئة ووصمة عار في جبين كل سلطة أو جهة قصّرت في واجبها، وهو إنذار مخيف بانهيار منظومة القيم والأعراف التي كانت حتى في أحلك الصراعات، تحرّم التعدي على النساء".
وأكد المعمري أن هذه الحادثة ينبغي ان لا نقتصر في تناولاتها باعتبارها حادثة فردية لشخص منفلت تستهدف امرأة اوقفت نفسها لواحدة من انبل الأعمال في تعز، فالحادثة تهدد صورة تعز التي عرف عنها المدنية والالتزام بالقانون، وتكسر قواعد الأعراف الاجتماعية وتكشف المدينة أمام عدوها الأكبر، وتجعل من الجهة التي يناط بها حماية الناس تبدوا مصدرا للتهديد والعنف والجريمة، بل وتقدم المدينة التي يقطنها ملايين الناس وآلاف من أبناء الجيش والشرطة والأمن باعتبارها مدينة خاضعة لعصابة، أو منطقة، أو معسكر منفلت تحول أفراده في نظر الناس إلى مصدر تهديد".
وأضاف "هذه حادثة يجب ان نتعامل معها جميعا بروح مسئولة، روح أبناء تعز التي نعرفها، وليست هذه الروح المنفلتة الطارئة التي يراد فرضها على مدينة بثقافة وعمق وتاريخ ونضال وجسارة مدينة تعز".
وقال "علينا ان نعمل جميعا لإزالة هذا التشوه الذي يمعن في فرض نفسه، وبشكل منظم، وتحت حماية نافذين وقيادات قبلية ومناطقية لا ترى في تعز إلا مسرح جريمة أو مصدر فيد ونهب".
ودعا البرلماني المعمري
رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد العليمي إلى أن يبادر لاتخاذ قرارات شجاعة وحاسمة بتحديد طبيعة المشكلة التي تعاني منها مدينة تعز والشروع في معالجات فورية تعزز من قوة مؤسسات السلطة بكافة بنيتها العسكرية والمدنية، وتقفل الباب أمام مساعي تحويل تعز إلى مرتع للفوضى والقتلة والعصابات المنفلتة.
فيما الكاتب والمصور الفوتغرافي عبدالرحمن الغابري
، فقال
"قُتلت المشهري لأنها كانت تريد أن تستنشقوا عبير الورد، قتلتموها لأنكم ذباب لا يطيق سوى روائح البلاليع
".
وأضاف "قتلوها لأنها أرادت تنظّيف رؤوسكم من مخلفات قذاراتكم، المجد لك يا إفتهان والسلام لروحك العطرة، والعار كل العار للقتلة، ويا أهلنا في تعز اكنسوا الأوساخ من الحالمة
".
كانت آخر محاولة جادة لتجسيد معنى الدولة
الناشطة لمياء الشرعبي، كتبت "كانت إفتهان آخر محاولة جادة لتجسيد معنى مؤسسات الدولة في بيئة تآكلها الفساد، ومدينة تحكمها الفوضى، كانت تكافح كي تبقي شيئا من ملامح النظام والقانون قائما، تكافح لأجل الأمانة في بؤرة ممتلئة بأفواه الفساد".
وقالت "في بداية مسيرتها فصلت إفتهان مئات الأشخاص الذين يستلمون رواتب من صندوق النظافة دون أن يكون لهم أي دور، وقد حسنت إيرادات صندوق النظافة خلال سنة إلى 90 مليون تقريباً، ومن هنا بدأت الحملة ضدها، بأقلام مأجورة أولا كي يشوهوا صورتها إعلاميا، ثم بقاتل مأجور أنهى حياتها
".
وأكدت الشرعبي أن إفتهان لم تكن سوى ضحية للصدق للإخلاص للأمانة، هي آخر صوت صادق نقي في تعز".
حين تُذبح المدنية في وضح النهار
في حين قال الكاتب عبده سالم، "من غير المعقول أن مدينة تزعم الحداثة والمدنية، تسمح أن تُقتل فيها امرأة لها حضور ومسئولية في وضح النهار وعلى مرأى الجميع".
وأضاف "أي مفارقة أشد مرارة؟ في القبيلة يُعد قتل امرأة عارًا مشينا لا يجرؤ عليه أحد، بينما في "الحاضرة" صار ممكنًا كأننا في غابة بلا ناموس ولا شيم". مؤكدا أن مقتل أفتهان المشهري وصمة عار في جبين تعز كلها، محملا في الوقت نفسه المجتمع التعزي بمختلف فئاته مسئوليته كاملة لإزالة هذا العيب الفاضح.
وقال "السلطة المحلية والأمن: إما القبض الفوري على الجاني أو تقديم الاستقالة. الجيش والأمن والمقاومة: نريد حملة قانونية حقيقية لاجتثاث أوكار المجرمين، لا شعارات تُلقى في الهواء.
الأمن بالذات: مهمتكم ليست كتابة بيانات نعي بعد وقوع الجريمة، بل منعها قبل أن تقع.
وزاد "اليوم تبكي تعز امرأةً عملت على تطهير شوارعها من الأوساخ، فإذا بيدٍ آثمة تغتالها وتترك مدينتها ملوثة بالدم والعار".
مكنسة الأمل لتنظيف تعز من الفوضى والفساد
الدكتور عادل الشجاع، عضو اللجنة العامة بالمؤتمر الشعبي العام
، يقول
"افتهان المشهري" لم تكن مجرد موظفة، لم تكن سيدة مكتب أو مديرة صندوق نظافة وحسب، بل كانت امرأة اختارت أن تحمل مكنسة الأمل وتخوض بها معركة ضد ركام القذارة والإهمال والفساد، أرادت أن تنظف تعز من القمامة، لكن المدينة التي تغرق في الخراب اختارت أن تغتالها".
وأضاف "في يوم أسود لن تنساه تعز، سقطت افتهان برصاصة غدر، رصاصة لم تكن موجهة إلى جسدها فقط، بل إلى فكرة الحياة نفسها، إلى كل من يحلم أن يحدث فرقا، إلى كل مواطن يريد أن يرى شوارع مدينته نظيفة كما قلبه، سقطت افتهان، وسقط معها ما تبقى من وهم أن في تعز دولة".
وحسب الشجاع من قتل افتهان؟ فالقاتل معروف، وسيمسكونه، لا شك في ذلك، لكن الجريمة أعمق من مجرد أداة، القاتل الحقيقي لا يختبئ خلف البندقية، بل يجلس على الكرسي، يوقع القرارات، ويغض الطرف، ويسمح للرصاص أن يطلق على من يحاول بناء الحياة.
وقال "القاتل الحقيقي هو محافظ تعز الذي عجز عن فرض الأمن، هو مدير الأمن الذي لم يعد يعرف الفرق بين المجرم والمواطن، هو قائد المحور الذي انشغل بالحرب عن السلام، هي القيادات الحزبية التي قبلت بأن تتحول تعز إلى مزرعة للمليشيات والسلاح والسقوط الأخلاقي".
وأردف الشجاع "هذه ليست أول جريمة، لكنها الأولى من نوعها: أول اغتيال لامرأة في اليمن بسبب عملها المدني، لأنها ببساطة أرادت أن تنظف مدينة ملأتها المليشيات بالخراب، كم هو مرعب أن تصبح النظافة جريمة، وأن يصبح غرس الأمل خطرا على الحياة، وأن تصبح افتهان هدفًا فقط لأنها تجرأت أن تحلم لمدينتها بما لم يحلم به القادة".
واستدرك "نعم، سيحاكم القاتل، لكن التاريخ لن يغفر لقيادات تعز، إن لم يحاكم من شرع الفوضى، ومن حمى القتلة، ومن زرع الموت بدل الأمل، والمشهري لم تكن مجرد ضحية، بل كانت راية، والرايات لا تنسى".
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news