المشكلة في أننا لم نعرف يوماً ما الحرية بضوابط أخلاقية. ولم نعشها كما ينبغي إبداعاً ونظام حكم مبني على العيش المشترك. لذلك أدمنا الخضوع، والانصياع، والقبول بما يُملى علينا، والبقاء في قفص التبعية والمحاكاة والتقليد والإرث الماضوي، دونما غربلته ونقده وتجاوز السلبي منه. الحرية التي لم نأت إليها في سياق تاريخي منتظم، لم نكن ذات يوم فيها. لذلك بقينا في الأسر والعقلية الواحدة المسطحة اللامسؤولة، ونحزن كثيراً حين نغادر السجن الذي صار فينا حياة مألوفة نحتفي بها لتبقينا في قعر التخلف مجرد أدوات ليست حتى ذكية. السجن ليس بالضرورة أربعة جدران، ولكنه قد يكون سجناً مرتهناً إلى ما هو بالٍ، وما يحركنا قيمياً إلى ما يريد، وما يُلغي التفكير ويبعث على الكسل الذهني والاتكالية وإحالة العجز في التحرر والإبداع إلى المؤامرة، وإلى إرادة أخرى خارجية نبحث عنها في الفراغ وفي هذه العدمية التي تطال مجتمعاً تناوشتْه العربية كلها، وتلقي باللائمة على الإمبريالية والاستعمار لتعفي نفسها من الإنجاز، وصناعة الغد، وفعل الاستيقاظ، والبقاء في متاهات لا نعرف إلى أين تؤدي.
كأن العربي هو المُدجَّن على العبودية والإذلال، يحزن كثيراً حين يوشك أن يفارقها ويعود إليها سريعاً كما حدث في الربيع العربي. يستلذ حياة البطريركية، والبقاء تحت ظل الفرد، هو من ينوب الكل في التفكير، ويمنحهم نعمة البقاء أحياء. الحرية التي لا ترقى إلى مستوى التجدد والتفتح والإدراك بما هو إنساني والعمل على ضوئه. هي بانعدامها هكذا توق غزير إلى الاستسلام والخضوع وتبرير الهزيمة في الذاكرة الجمعية والوجدان الجماهيري. لم نألف الحرية ولم نتعايش معها. لذلك نخاصمها، نصدر فتاوى عنها، نذبحها حين نجدها، نرتل آيات محوها وعقرها وتكفير وتفسيق من يشترطها كضرورة وجود وتحول إلى ما يجعل الحياة رطبة وقابلة للعيش المشترك. من أجل ذلك لا نحتفي بها، ونغرقها في قارب الجهل، ونجعلها تصدير غرب إلينا لا بد من الوقوف ضده وخلق تخاصم مع من يقول بها.
الحرية لم تكن نضالاً وعملاً فينا، ولم تُصغ فكرياً وفلسفياً على مستوى الحياة. لذلك ترهقنا وتتعبنا ونرى إليها شيطاناً قدم من وراء البحار يريد استلابنا ماضينا وحاضرنا، من أجل ذلك نشد وثاقنا، ونعيش الدَّعة واللامبالاة والتبريرية والاستغراق في الماضي كثيراً، ونقبل بالسجن المؤدلج الذي يصوغه أولو الأمر من أجلنا، ونخرج بهتافات وحشود يعجز عن وصفها الإنسان لما فيها من خضوع تام لما ليس حرية وانتماء إبداعي.
هكذا نحن في تعاملنا مع الحرية، نلوكها ونفتقدها في آن، حين تريد أن تكون نُجهز على حاملها، ونطفئ شعلتها وننام في دعة ليوم آخر من الحزن والعذاب ومغادرة الذات ذاتها والعيش في حالة اغتراب عن العصر وإيقاعاته. يلزم الحرية حرية، لنخرجها ونراها ونعيشها ونعمل من أجل ما هو إنساني يرتب فينا الحياة ويجعلها انتظاماً وإبداعاً وازدهاراً اقتصادياً وتحولاً سياسياً وتعايشاً مع الجمال دونما إلغاء للعقل، ووأد حرية التفكير الخلاق.
الحرية عدوها الحقيقي الإنسان العربي، لأنه يقبل بما يُملى ويفرض عليه، ويعيش خانعاً صاغراً ذليلاً لإرادة الحاكم وهو ينتقل به من فعل الرفض الاستعماري إلى التطبيع، فيجد من يقهر تضحيات وتطلعات من ذات الأمة لأنها تحتكم إلى الدكتاتور، إلى المستلذ بعبوديتها إلى المدجَّن لها والرابض فوقها، فيما هي معطلة حتى من الآهة وتستخذي إلى ما يستلب إرادتها. العربي غريب ومغترب في أرضه ووجوده وحياته التي لم يعشها يوماً، لأنه في فخ السلطان والتسلط قابل له.
الحرية تطلع وبناء وتفتح وازدهار وانتصار لقضايا مصيرية، وتحرر من ربقة الكتب الصفراء التي تفكر نيابة عنا، وتجعلنا نقع فيها مجرد مستهلكين.. مستهلكين.. وهالكين.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news