تأسست حضارة الحبشة قبل أن تتفتح الحضارات اليمنية وتترسخ على ضفاف وديان سبأ ومعين وحمير. حدث ذلك في قلب الهضبة الإفريقية، وعلى تلال أكسوم التي تنبض بعبق التاريخ.
على أن السرديات التاريخية التقليدية التي ترى في اليمن الأصل والبذرة التي منها انبثقت الحبشة، تحتاج اليوم إلى مراجعة دقيقة، ليس رفضًا للتاريخ المشترك، بل احترامًا له، واعترافًا بأحقية ضفة البحر الأحمر الأخرى في قيادة سرديتها الحضارية المستقلة.
علميًا، تشير الشواهد الأثرية إلى أن أقدم استخدام للخط المسند، ذلك النظام الكتابي المقدس، تم في مملكة أكسوم في إثيوبيا بحوالي ألفي عام قبل أن يستقر بشكل دائم في جنوب الجزيرة العربية.
في حين أن وجود هذا الخط في إثيوبيا، لا بوصفه وارِدًا، بل مطورًا ومحورًا، يعكس أن الحضارة الحبشية لم تكن متلقية، بل فاعلة في إنتاج وتدوير الرموز الثقافية.
اقتصاديًا، لعبت الحبشة دورًا محوريًا في شبكات التجارة العالمية منذ ما قبل الميلاد، عبر بوابات البحر الأحمر، وصولًا إلى وادي النيل وشمال إفريقيا. إذ إن نفوذ مملكة أكسوم لم يتوقف عند حدود التجارة البحرية، بل امتد سياسيًا حتى أعالي اليونان والنيل والسودان، واقتصاديًا حتى أعماق آسيا عبر تحالفاتها التجارية. بينما بقيت ممالك اليمن القديمة محصورة جغرافيًا ومحدودة التأثير مقارنة بامتداد التأثير الحبشي.
وثقافيًا، كانت الحبشة من أوائل الممالك التي تبنت المسيحية دينًا رسميًا في القرن الرابع الميلادي، قبل روما بزمن، وأرست نموذجًا فريدًا لمزج التقاليد الإفريقية بالرسالة المسيحية في تجربة روحية عميقة تواصلت حتى اليوم دون انقطاع.
وهو إرث لا يزال حيًا في كنيسة التوحيد الإثيوبية التي حافظت على طقوسها ولغتها (الجعزية) وخطها، في حين اختفت اللغة والخط اليمني القديم من الاستخدام الشعبي والديني.
كذلك سياسيًا واجتماعيًا، عرفت الحبشة نظامًا ملكيًا قويًا ومستقرًا لأكثر من ألفي عام، حافظ على تماسكه الداخلي بالرغم من التحديات، في حين تفتت اليمن في فترات متقاربة بين ممالك متصارعة، ومراحل طويلة من الانهيار الاجتماعي بعد سقوط سد مأرب، الذي تحول إلى لحظة انكسار جماعي بدلًا من بداية نهضة.
وفي قلب الهضبة الحبشية، تشهد الطبقات الجيولوجية والبقايا الأثرية على وجود بشري وثقافي موغل في القدم، يسبق نشوء الممالك اليمنية المعروفة. ففي حين تبلورت ممالك اليمن ضمن إطارات زراعية وتجارية متأخرة نسبيًا، عرفت الحبشة نظمًا اجتماعية مستقرة منذ آلاف السنين، طورت خلالها أنماطًا روحية، عمرانية، ونقوشًا تعكس عمقًا معرفيًا أصيلًا.
أي، ليس معيار الأقدمية تفوقًا، بل مسؤولية حضارية. لكن من المهم الاعتراف بأن مركز الثقل الحضاري في جنوب البحر الأحمر بدأ من الهضبة الإثيوبية، لا السواحل اليمنية. وإن تقديس وحدة التاريخ بين الضفتين لا يعني طمس التسلسل الزمني، بل احتفاؤه بعدل ورؤية.
ولقد قالها الهدهد قبل ألفي عام: “ائتوني مسلمين”.
ولم يكن يخاطب سبأ وحدها، بل أعين الحبشة أيضًا، ملوكًا من نسل سليمان، عرفوا الحق حين رأوه، فأسلموا بلا سيف، ولا جدال.
كما كان محمد، نبي الجزيرة، يعلم أن في أكسوم رجالا كتب الله على قلوبهم النور قبل أن يبلغهم الكتاب، فقال عن الملك النجاشي: “ملك لا يُظلم عنده أحد”.
لهذا أرسل أصحابه إليه، لا كلاجئين بل كرسل أمانة، وكأن النبوة ذاتها كانت تعترف بأن جذور النور قد سبقت الإسلام إلى تلك الأرض.
أرضٌ لم تكن تابعة، بل شقيقة في مشيئة الله، موصولة بالعهد الأول.
ففهمت الحبشة الرسالة قبل أن تُتلى، وقالت للسماء: “ائتوني مسلمين”.
لا مفاضلة هنا، بل شراكة قديمة في إرث لا يُشترى، بل يُفهم.
على أن هذه المقارنة لا تهدف إلى خلق تراتبية عنصرية بين حضارتين شقيقتين، بل إلى تحرير السردية التاريخية من خطاب الهيمنة الثقافية، الذي يغلف العلاقات بين الشعوب بأغطية التفوق الجغرافي أو العرقي أو اللوني.
إذ إن التماثل اللغوي والأنثروبولوجي بين اليمن والحبشة ليس دليلاً على التبعية، بل على انبثاق مشترك من رحم بحر مشترك.
أي أن الاعتراف بأسبقية الحبشة حضارياً، لا ينتقص من اليمن، بل يرتقي بالمنطقة كلها إلى فهم أوسع للتاريخ: أن إفريقيا ليست تابعة، وأن جنوب البحر الأحمر ليس بوابة واحدة، بل ضفتان متكافئتان في القيمة، مختلفتان في السياق، متلازمتان في المصير.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news