كتب / بشرى العامري:
في خطوة جديدة تعكس تصاعد سياسات التضييق الاقتصادي التي تنتهجها جماعة الحوثي بحق المواطنين والتجار في المناطق الخاضعة لسيطرتها، أصدرت ما تسمى بـ”وزارة الاقتصاد والصناعة والاستثمار” في صنعاء قراراً بحظر استيراد أكثر من 20 صنفاً من السلع الغذائية والصناعية والاستهلاكية، أبرزها دقيق القمح، وحفاضات الأطفال، ومنتجات غذائية ضرورية، إلى جانب قائمة أخرى تضم نحو 13 صنفاً سيتم تقييد استيرادها.
هذا القرار الذي اتخذ دون دراسة آثار السوق أو مراعاة للأوضاع المعيشية والاقتصادية الصعبة، يُنذر بكارثة حقيقية ستطال ملايين المواطنين، الذين يعانون أصلاً من الفقر وانعدام الأمن الغذائي وغياب الخدمات الأساسية.
الإنتاج المحلي غير قادر على سد الاحتياج
تروج جماعة الحوثي للقرار بوصفه خطوة في إطار “تشجيع المنتجات الوطنية”، إلا أن الواقع يوضح عكس ذلك تماماً. فاليمن، بحسب منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (FAO)، يعتمد على الاستيراد لتوفير نحو 90% من احتياجاته من القمح، حيث لا يغطي الإنتاج المحلي سوى ما نسبته 6% من الاستهلاك السنوي البالغ أكثر من 3.3 مليون طن.
وتشير تقديرات برنامج الأغذية العالمي (WFP) إلى أن أكثر من 18 مليون يمني يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بينهم أكثر من 3 ملايين طفل تحت سن الخامسة يعانون من سوء التغذية الحاد.
وفي ظل هذه الأرقام، فإن أي قرارات تؤدي إلى تقليص المعروض الغذائي ستفضي إلى ارتفاع جنوني في الأسعار وازدياد حالات الجوع، لا سيما مع غياب الرقابة وضعف القدرة الشرائية.
تدمير ممنهج للقطاع الخاص
الضرر لن يقتصر على المستهلك فقط، بل سيمتد إلى التجار وأصحاب المنشآت الصناعية والاستثمارية، الذين تلقوا خلال السنوات الماضية ضربات متوالية على يد الحوثيين، تمثلت في فرض الجبايات الباهظة، والقيود الإدارية التعسفية، وإغلاق المصانع بحجج واهية.
وقد أدى هذا الوضع إلى خروج عشرات المصانع من الخدمة، ونقل العديد من الاستثمارات إلى خارج اليمن، خصوصاً إلى دول مثل مصر وتركيا والسودان، بعد أن ضاق بها الخناق داخل البلاد.
وتشير تقارير اقتصادية إلى أن قطاع الصناعات التحويلية في صنعاء وذمار والحديدة شهد انكماشاً حاداً تجاوز 50% خلال السنوات الأربع الأخيرة، بفعل القيود الحوثية المتزايدة.
على سبيل المثال، نقلت إحدى كبرى شركات صناعة الحفاضات ومواد التنظيف مصنعها من ذمار إلى تركيا، بعد تعرضها لمصادرة معداتها وفرض غرامات مالية تحت مسمى “دعم المجهود الحربي”. كما أغلقت مجموعة “يمني بلاست” المتخصصة في العبوات البلاستيكية مقرها في صنعاء وانتقلت للعمل في مصر، بعد سلسلة من المضايقات والتهديدات.
تجربة سوريا ولبنان: دروس قاسية
قرار الحظر الأخير يفتح الباب أمام سيناريوهات مقلقة مشابهة لما حدث في سوريا ولبنان، حينما لجأت المملكة العربية السعودية قبل أعوام إلى منع دخول المنتجات الزراعية والصناعية من تلك البلدان، بعد ضبط شحنات مخدرات مثل الكبتاجون والشبو داخل صادرات الفواكه والخضار، ما أدى إلى خسائر اقتصادية فادحة لتلك الدول وتضرر آلاف المزارعين والمصدرين.
اليمن لا يتحمل أن يسير في هذا الاتجاه، خصوصاً مع التقارير الأمنية الأخيرة التي كشفت عن ضبط كميات كبيرة من المخدرات، بعضها يُعتقد أنه مصنع محلياً في مناطق سيطرة الحوثيين، بما في ذلك إعلان متداول عن وجود مصنع للكبتاجون في محافظة المحويت، وفق معلومات متداولة وتحقيقات قيد المتابعة.
هذا الواقع يزيد من مخاوف أن تقوم المملكة العربية السعودية، وهي الشريك التجاري الأول لليمن، بفرض قيود إضافية على دخول البضائع اليمنية، وهو ما سيؤثر على ما تبقى من صادرات البلاد، خصوصاً المنتجات الزراعية الطازجة مثل المانجو والرمان والعنب، التي تمثل شرياناً حيوياً للمزارعين في المناطق المحررة.
المواطن هو الضحية الأولى
القرار الحوثي، بقدر ما يرفع شعارات “حماية الإنتاج المحلي”، إلا أنه يفتقد لأي استراتيجية اقتصادية حقيقية، ويُضاف إلى سلسلة طويلة من الإجراءات التي تزيد معاناة المواطن اليمني وتدفعه إلى السوق السوداء، حيث تتضاعف الأسعار وتنعدم الجودة، في ظل غياب الرقابة ومؤسسات الدولة.
العديد من الاقتصاديين يرون أن الاقتصاد اليمني يعيش مرحلة احتضار في المناطق الخاضعة للحوثيين، بفعل سياسات الجباية ونهب الإيرادات وتدمير بيئة الأعمال، وأن الاستمرار في اتخاذ قرارات ارتجالية كتلك سيؤدي إلى انهيار شامل في سلاسل التوريد والقدرة الشرائية.
سياسات جائرة لخنق البلاد
إن قرار جماعة الحوثي بحظر عشرات السلع الضرورية لا يخدم الاقتصاد الوطني كما تدعي، بل يعمق الفجوة بين المواطن واحتياجاته، ويهدد الأمن الغذائي ويطرد ما تبقى من رؤوس الأموال الوطنية، وفي ظل غياب المؤسسات الرقابية والبيئة القانونية والاقتصادية السليمة، فإن مثل هذه القرارات تُعد بمثابة إعلان حرب على المواطن والتاجر والمستثمر على حد سواء.
ويبقى السؤال: إلى متى ستستمر هذه السياسات في خنق البلاد من الداخل، بينما يُحمّل الخارج وحده مسؤولية الأزمات؟
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news