اليسار العربي من الثورة إلى الصالونات

     
بيس هورايزونس             عدد المشاهدات : 121 مشاهده       تفاصيل الخبر       الصحافة نت
اليسار العربي من الثورة إلى الصالونات

أتساءل دائما لماذا فشل اليسار في تقديم نموذج له تأثير مستمر في الواقع، ومن تأمل الوجوه والتجارب والأسماء اليسارية بما فيها تجربة اليسار في اليمن، يظهر أن هذا التيار عاش أزمة هوية أو أنه وصل إليها بالتدريج، فلم يعد يعرف مع زحمة التحولات والضغوط هل هو حركة معنية بالجماهير وخدمة الناس أم أنه مجموعة محللين سياسيين يتحدثون في المنتديات أو يكتبون مقالات بجمل وفقرات مدروسة بعناية لاستعراض مخزون قراءات من القرن الماضي؟

هل يريد اليسار تغيير الواقع أم الاكتفاء بالفلسفة والتنظير وتشخيص المشاكل والابتهاج بمعرفة مواضع الخلل دون التوقف عن المشاركة في مراكمة الخلل بشكل أو بآخر؟

في الواقع لم يفشل اليسار كفكر ولايزال من الناحية النظرية صالح كمنهج لتحليل ما دار وما يدور في عالمنا حتى هذه اللحظة، خصوصاً بعد أن وقعت رقبة العالم في قبضة رأسمالية جشعة يتصدر أكبر دولها اليوم ممثلة بالولايات المتحدة تاجر جشع يبيع ويشتري بكل شيء، بما في ذلك المتاجرة بالحرب والسلام، أعني ترامب صاحب الصفقات المريبة.

علينا الاعتراف بأن اليسار عجز تماماً عن تقديم قيادات جديدة تحظى بالاحترام والثقة، وأن الأغلبية من المحسوبين على الصف الأول في حركات اليسار العربي إما باعوا أو سكتوا أو أصيبوا باليأس، وتحول الفكر النبيل في نظرهم إلى ذكريات من الماضي لا تصلح إلا للمسامرة والحنين، بينما تركز تفكيرهم وتحركهم العملي حول تأمين مستقبل أولادهم وأحفادهم.

عكس اليسار قدمت الحركات الأخرى شخصيات قريبة من الشارع أو على الأقل تحاول استغلاله والتقرب منه في المناسبات والمظاهرات والساحات وتسيطر على المنصات وتصدر خطباء ومتحدثين، رغم ضحالة مشروعهم وخطابهم الذي يعتمد على التلاعب بنبرة الصوت وسرد الشعارات الدينية المستهلكة، وربط العمل السياسي بالحساب والعقاب والجنة والنار والسعي بإلحاح إلى الطلب من الجماهير أن تعصب عيونها وأن تفوض من صوته أعلى ولسانه أطول على المنصة حتى وإن كان الأكثر احتيالاً وعمالة واستغلال.

قدم التيار الديني بشقيه السني والشيعي المتطرف والوسطي شخصيات شعبوية تتاجر بالقرآن والتوراة والإنجيل وسلال الغذاء، وبقي اليسار بعيداً عن الشارع ولا أحد يخبر الناس أن كل خطاب سياسي يقوم على الدين يحمل في جوهره الكثير من التحايل والنصب واستغلال الشعوب وخداعها، وقدم اليسار مثقفين يتحدثون بطريقة معقدة لا يفهمها الناس، ولا يعرفون كيف يمكن تحويل رؤاهم إلى واقع جيد. حتى الألقاب التي دأب اليسار على استخدامها مثل “الرفيق” و”المناضل” أصبحت غريبة ومضحكة ولم تعد ملهمة وبدت الشخصية اليسارية في السينما (المصرية تحديدا) مثالاً للعفونة وعدم السوية، وهذا لا يستند إلى مجرد التخييل الفارغ الذي لا أساس له في الواقع.

اليسار بدوره وفي وجه من وجوهه تيار محافظ يعتمد على النقل وظل يتعامل مع الأفكار النظرية والتشخيصات القديمة لأمراض المجتمعات الرأسمالية كأنها نصوص مقدسة لا يجوز المساس بها أو إعادة النظر فيها، فانتشر الحفظ والتكرار لمقولات ماركس ولينين دون أي إعادة موضعة للنص الماركسي بما يتلاءم مع المستجدات وبعض النجاحات التي لا يمكن إنكار أن الرأسمالية حققتها في بعض الجوانب، وانعكاس ذلك على تحديد نوعية الهامش الذي ينبغي التحرك فيه من منظور يساري يسهم في حل نوع جديد من مشاكل الناس الذين وصل بهم الحال في بعض الدول مثل اليمن إلى الافتقاد لمفهوم الدولة من الأساس، بعد أن عادت الأوضاع بالضبط إلى مرحلة مجتمع ما قبل الدولة حرفياً، لأن الدولة لا تعني فقط وجود مسؤولين يتقاضون مخصصات شهرية!

الأبن الذي لا يستطيع دفع مصاريف علاج والده اليساري القديم لا يمكنه أن يذهب بحفنة مقالات عن الصراع الطبقي إلى شباك المسؤول المالي في المستشفى! هكذا يجب تخيل صورة اليسار في وعي أبناء اليساريين أنفسهم الذين ظل آباؤهم يصفون تجربة كوبا وما حققته على صعيد العلاج المجاني للشعب الكوبي، بينما لم ينجحوا في تحقيق أي تقدم يذكر في بلدانهم في هذا الاتجاه، أو حتى يحافظوا على ما كان قد تحقق في أوقات سابقة من منجزات وخدمات مجانية للشعب.

هل المجتمع وظروفه أقوى منا جميعا ولا يزال في مرحلة التيه والقابلية للعودة إلى الوراء والإبقاء على النظريات السياسية معزولة في صفحات الكتب ومحاضرات وندوات القادة والمثقفين؟ ولماذا نحمل اليسار مهمات أكثر من غيره؟ هذه أسئلة مشروعه والجواب عليها يحتمل القول إن اليسار كان يبشر بالحل والخلاص من قوى التخلف والاستغلال ومصاصي الدماء، لكنه اكتفى بنقل التبشير من تطلع الجماهير إلى الغرف المغلقة التي تصر على الاحتفاظ بمسميات الأحزاب اليسارية وهياكلها من دون العمل على أن يكون لليسار أي صوت أو أثر في الواقع، بينما نجحت تيارات الإسلام السياسي في الهيمنة على ثورات الربيع العربي وجعلت من منصاتها مسارح لخطابها، وما تحت تلك المنصات كانت بشهادة كثيرين غرف تعذيب وتحقيق مع كل من حاول رفض أخونة الربيع.

من المهم القول إن اليسار يحمل رؤى نظرية حالمة لها وقع في كل نفس تتشوق إلى العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، لكن معظم أولئك الذين احتكروا الحديث باسم اليسار والطبقة العاملة أصبحوا اليوم منفصلين تماماً عن مجتمعهم بكل طبقاته البسيطة من عمال وموظفين وفلاحين وطلاب وجنود، ولم يعد المنظر اليساري يرى في نفسه إلا الناقد والمحلل والمراقب غير المعني في الواقع بمشاركة الناس همومهم، وكأن التحليل والتشخيص مهمته الوحيدة، أما ما بعد التحليل فشأن إلهي! وبناء عليه لن يتغير الوضع البائس لليسار إلا إذا آمن من جديد أن ما بعد التحليل هو العمل، وأن العمل يمكن أن يصنع الأمل، وأن المجتمعات تستحق من يبذل ما في وسعه لخدمتها بدلاً من الاكتفاء بالتفلسف حول إشكالياتها.

أحمد السلامي

شارك

Google Newsstand تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news


تابعنا على يوتيوب

تابعنا على تويتر

تابعنا على تيليجرام

تابعنا على فيسبوك

“ماربورغ”.. وباء جديد لا علاج له ولا لقاحات والحكومة اليمنية ترفع الجاهزية لمواجهته بإجراءات صارمة.. ماهي أعراضه ومخاطره؟

بران برس | 677 قراءة 

تصاعد التوتر في حضرموت.. “الانتقالي” يدفع بتعزيزات ضخمة و“بن حبريش” يدعو للإحتشاد بعد تهديدات بـ“معركة كبرى”

بران برس | 522 قراءة 

البنك المركزي اليمني يوضح حقيقة تقاضي “المعبقي” 40 ألف دولار شهريًا

بران برس | 350 قراءة 

وزير الخارجية اليمني الأسبق عبدالملك المخلافي يرد على موقف اليماني الأخير بشأن الوحدة اليمنية

يمن فويس | 337 قراءة 

الاستعداد لصرف مرتبات جديدة للجيش والامن في عدن

كريتر سكاي | 297 قراءة 

كشف امر هام للمواطنين بشأن البركان

كريتر سكاي | 262 قراءة 

تقرير | مياه المكلا ليست صحية.. 70% من المحطات والمعامل “غير صالحة” باعتراف السلطات و“برَّان برس” يتتبع المشكلة ويناقشها مع مسؤولين ومختصين

بران برس | 261 قراءة 

كارثة في صنعاء.. ارتفاع ضحايا الخمر المغشوش إلى 12 قتيلا

تهامة 24 | 260 قراءة 

اختفاء ثلاثة قياديين بارزين من جماعة الحوثي، من بينهم المداني والحوثي.. هل اغتيلوا؟

المشهد اليمني | 254 قراءة 

الراتب الشهري لمحافظ البنك المركزي اليمني “أحمد غالب المعبقي”

يمن ديلي نيوز | 238 قراءة