يفوز دونالد ترامب في انتخابات الـ5 من نوفمبر 2024 الأمريكية كرئيس للولايات المتحدة بعد سقوطه قبل أربعة أعوام.
في العودة قدر من الغرائبية؛ فعالم الاجتماع ابن خلدون يرى أن الملك إذا زال لا يعود، ولكن سقوط ترامب وعودته أمر مختلف.
فالغرائبية الفاجعة أنَّ تُوجَّه إليه ما يقرب من تسعين تهمةً، يدان في أكثر من ثلاثين منها، منها تهم التهرب من سداد الضرائب، والتزييف في سجلات تجارية، والتحريض على العنف، بالإضافة إلى عشرات التهم الماسة بالكرامة.
ورغم التهم، التي أدين بها، يكتسح ترامب الانتخابات مهيمنًا على الكونجرس، ويسيطر حزبه الجمهوري على مجلس الشيوخ، ويحتفظ بالأغلبية في النواب.
كان الخوف والغضب -كما يرى صاحب كتاب «الحرب»- ضمن أسلحته في المعركة الانتخابية، وربما كان تعامله مع إدارة بايدن كإدارة مسروقة، وقدرته على الإخافة قد ساعد في الفوز الكاسح على بايدن. ترامب -كتصوير بوب وود وارد- “رجل الغرائز”- في الانتخابات يعلن: “الحرب الآن مسعرة في أوروبا، والشرق الأوسط، وظلال الصرع تتزايد في تايوان، وكوريا، والفلبين، وكل آسيا، وكوكبنا على حافة الحرب العالمية الثالثة”.
قال عنه بوب: “إنه يركز على الفوز، والقتال، والبقاء على قيد الحياة. والطريقة الوحيدة الغريزة. (كن لبعض الناس قاتلاً، ولبعض الناس كن كالحلوى، وبالنسبة لبعض الناس تكون مختلفة. لبعض الناس كن كليهما: قاتل ولطيف).
هذا هو ترامب كما يصوّر نفسه. بايدن وترامب كلاهما قاتل وعدواني، ولكن ترامب أكثر تقتيلاً وعدوانية. في حرب الإبادة على غزة وفر بايدن كل أدوات الإبادة، وشارك وقدم التبرير والتغطية السياسية، ولكنه بحكم المواقع كان يدعو نفاقًا إلى وقف الحرب والتخفيف من معاناة غزة، بينما ترامب يدعو نتنياهو إلى تحقيق الانتصار، وأن تأخذ حرب الإبادة مداها.
يتشارك بايدين ونتنياهو في التشدد والعداء للعرب والأجانب، فهو شديد الإيمان بمقدرته على استعادة عظمة أمريكا، وربما أضاف لها إسرائيل كتصريح له في تعييناته الأولى، وشعاره الأساس: “أمريكا أولاً” هو ما دفع للحرب في الصومال، وأفغانستان، واليمن في ولايته الأولى، وانتصر ترامب.
القصيدة تُقرأ من عنوانها، أثناء إجراء أولى تعييناته قال ترامب: “ستعود إسرائيل عظيمة، وأمريكا عظيمة؛ لتكون الأولى”.
كما أن تعييناته الجديدة تضم معادين للفلسطينيين، ومن المتشددين ضد الصين وإيران. ليس لترامب برنامج ونهج واضح ومحدد، وتتسم سياساته بالشعبوية والإرادوية، وهو مشدود إلى “أمريكا أولاً”. يحمل شعار أمريكا أولاً -كما يقرأ عديد من المفكرين والسياسيين- قدرًا من العزلة، وجنوحًا للحمائية، والاحتفاظ بالهيمنة الأمريكية، والمواجهة مع الآخرين، وبالأخص الصين.
وانعزاليته تتجلى برفع التعريفات الجمركية إلى أعلى مستوياتها، ليس على الصين وحدها، وإنما أيضًا مع جواره المكسيكي، وحلفائه الأوروبيين، وهو انعزالي أيضًا؛ لأنه يمقت المهاجرين، ويصر على طرد حتى الأطفال الموجودين في أمريكا، ويريد منع الهجرة، وبالأخص من البلدان الإسلامية.
فترامب بفلسفة هيراقطيس، ومنطق ابن خلدون: الشيء ونقيضه! وهو كقراءة -بوب وود وارد- يجسد شخصية جيكل وهايد إشارةً إلى الشخصية الأدبية التي تتغير بشكل متناقض بين الخير والشر؛ فهو “داعية سلام!”، ورجل حرب في غير بلد، وهو مع سلام القوة -كتعبير عن الهوية الأمريكية- كما يقول صديقه غراهام، يتملكه الشعور بالقوة ومقدرة القوة، والقوة وحدها في فعل كل شيء؛ وذلكم مصدر السعي والزهو بالتفوق الأمريكي والإسرائيلي.
و”أمريكا أولاً” يتضمن معنى أنها فوق جميع دول العالم، وفوق الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وفوق المساءلة أو الالتزام بالمواثيق والقوانين والقرارات الدولية؛ وهو ما تجسده وتسبغه سياساته على الحليف الإسرائيلي.
يتساءل الناقد والمفكر صبحي حديدي في مقال بعنوان «ترامب الثاني الفاشية خلف انتصار “الماغا»: “كيف يلجم رجل كهذ؟! كان يتنامى في هوس “القومية الأمريكية”، الذي لم يعد غريبًا أو ناشزًا، أو نادر الاستخدام كما كانت الحال قبل صعود ترامب، ومنذ شيوع هستيريا تعظيم أمريكا سنة 2015 حين تضاعفت أكثر فأكثر النزعات العنصرية والمناطقية وفلسفات التفوق العرقي الأبيض كذلك في جزء متمم.
لم تعد الولايات المتحدة حصينةً تمامًا إزاء مؤثرات العالم خارج المحيط، ولم يعد تكوينها المجتمعي الذي ساد الاعتقاد بأنه متعدد المنابت، تعددي الأعراق بمنأى عن يقظة القوميات هنا وهناك في العالم بأسره، ثم في أوروبا حيث المنبع الثقافي الذي يغذي قسطًا غير ضئيل من القيم الأمريكية”.
ويرى الناقد محقًّا أن ذلك لا ينسب إلى ترامب وحده؛ فإن غالبية الإدارات الأمريكية السابقة منذ عهد وِلسون لم تفعل سوى محاولة تطوير المشروع الإمبريالي السياسي والاقتصادي والثقافي.
ويضيف: “ترامب أعلن أن انتخابه يخوله أن يكون دكتاتوريًا، وأنه سيثأر من خصومه، وأن عودته إلى البيت الأبيض سوف تريح الأمريكيين من واجب الذهاب إلى صناديق الاقتراع الرئاسية مرة أخرى وإلى الأبد. صفقة القرن بالأمس كان الفلسطينيون، ومعهم كل الحق، يعتبرون ترامب أسوأ رئيس أمريكي على الإطلاق”.
ربما في الأربع السنوات الأخيرة، يرى الفلسطينيين أنَّ بايدن بمشاركته في حرب الإبادة لا يقل سوءًا عن ترامب.
فهل تكون عودة ترامب الثانية تأكيدًا للاعتقاد الفلسطيني أنه الأسوأ؟! فقد شرعن الاحتلال في الضفة الغربية، وقطع المساعدات المقدمة للفلسطينيين، ومنعها عن وكالة غوث اللاجئين (الأنروا)، وقطع مساعدات المستشفيات، وأغلقت إدارته مكتب منظمة التحرير الفلسطينية بواشنطن، والأخطر الاعتراف بالقدس كعاصمة موحدة لإسرائيل، وسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان، وعدم اعتبار الاستيطان مخالفًا للقرارات الدولية.
في يناير 2020، أعلن ترامب خطته للسلام في الشرق الأوسط (صفقة القرن).
والصفقة والإجراءات كلها تؤشر على العمل على تصفية القضية الفلسطينية.
وقد أكدت خطة التطبيع الإبراهيمي، والضغط على العربية السعودية، والإغراءات الكثيرة- سعي ترامب لتصفية القضية الفلسطينية، وجاء الرد الفلسطيني بطوفان الأقصى.
تنكر صفقة القرن قضية الشعب الفلسطيني، وحق تقرير مصيره، وتتجاهل كفاح شعب فلسطين لما يقرب من قرن من الزمان. ويدير ترامب ظهره للقرارات الأممية والمواثيق والقوانين الدولية مؤيدًا حرب الإبادة؛ داعيًا نتنياهو إلى تحقيق النصر؛ ليقوم هو بإعلان الدولة اليهودية من البحر إلى النهر، وإرغام الدول المجاورة على تقبل اللاجئين الفلسطينيين، مع وعود كاذبة بالازدهار باسم السلام الاقتصادي، وتحسين الأحوال المعيشية، وفرض التطبيع الإبراهيمي على الدول العربية بما فيها العربية السعودية. وقد تلزم الدول الخليجية بتمويل خطة التهجير، وربما تلزم بما هو أقسى. فهل يدرك ترامب وتابعه نتنياهو أنَّ “طوفان الأقصى” قد أفشل الصفقة؟
وكان ثمن الإفشال فادحًا: دمار غزة، ومقتل أكثر من خمسين ألف شهيد غير المدفونين تحت الأنقاض، والجرحى أكثر من مئة ألف جلهم مدنيون ومن النساء والأطفال.
ورغم الحصار والتدمير والتقتيل والإبادة إلا أنَّ المقاومة ما تزال تقاتل، وليس لمد الحرب إلى لبنان والضفة الغربية معنى سوى العجز عن تحقيق الانتصار الذي يطلبه صاحب الصفقة النخاس ترامب.
ومعروف أن التاجر لا يشتري البضاعة ذات المشاكل.
فالعربية السعودية، التي يراد لها أن تكون الطرف الآخر في الصفقة، أدركت الغش في البضاعة المزجاة، وأن شيلوك إسرائيل، والنخاس ترامب متربحان من دماء الأمة العربية والشعبين: الفلسطيني، واللبناني.
القمة العربية والإسلامية في الرياض، في الأسبوع الفارط، كانت الرد على رفض الصفقة، وإدانة تجارها.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news