الجميع يشتكي الآن من الممارسات غير الأخلاقية لمنصات التواصل الاجتماعي التي تخطّت كل الخطوط الحمراء، وفي حين يبقى الحل الجذري هو ولادة منصات جديدة بنماذج تجارية مختلفة، إلا أن ذلك سيحتاج إلى سنوات… فهل يمكن إجبار تلك المنصات على إحداث تغيير جوهري؟
إن الخطوة الأولى لتحقيق ذلك هو صياغة مطالبنا من هذه المنصات بشكل واضح يمكن للجميع فهمه والاجتماع عليه دون غرق في تفاصيل فنية يصعب على غير المختصين فهمها. ومن الضروري هنا أن نكون واقعيين إن أردنا أن ننجح في دفع هذه المنصات لتغيير سلوكها… ففي النهاية هي مؤسسات تجارية استمرارها مرهونٌ بتحقيق الأرباح ولا يمكن أن تستجيب لمطالب تؤدي بها إلى الإفلاس في ظل النموذج التجاري المعيب السائد حالياً والذي لا يمكنها التخلي عنه الآن حتى لو أرادت… لذا وأنت تقرأ السطور التالية أرجو أن تضع في ذهنك أنني هنا لا أناقش الوضع المثالي الذي يفترض أن يكون، بل دفعها للتوقف عن الجشع المفرط والتزام الحد الأدنى المقبول أخلاقياً في ممارساتها وإحداث الحد الأدنى من التغيير المطلوب في أقرب وقت ممكن، وذلك ريثما تتوفر البدائل المناسبة في المستقبل.
ويمكننا تلخيص الأمر في 5 نقاط رئيسية:
1- احترام المستخدم
2- احترام وحماية خصوصية المستخدمين
يجب أن تبدأ المنصات باحترام خصوصية مستخدميها وتوقف على الفور كل أشكال التتبع لهم خارج المنصة أو التطبيق. إن تتبع الأنشطة داخل المنصة للاستهداف بالإعلانات أمرٌ مزعجٌ بما يكفي، ويتم التغاضي عنه كثمن لاستخدام المنصة باعتبار النموذج التجاري الذي تقوم عليه هذه المنصات، أما التتبع والتجسس خارجها فهو انتهاك فاضح لحقوق المستخدمين يجب أن يتوقف فوراً، ولا تبرره موافقة المستخدم عليه، والتي تحدث بصيغة فرض الإذعان بشكل أو بآخر.
فالمستخدم عادة لا يدرك العواقب الحقيقية للأمر.
إن ذلك يجب أن يتوقف بشكل نهائي ويعتبر جريمة لا عذر فيها أو حُجَّة. كما يجب تدمير أي بيانات سبق أن تم جمعها بهذه الوسيلة.
أيضاً.. يجب أن تتوقف المنصات بشكل نهائي عن تزويد أيّة أطراف ثالثة بمعلومات مستخدميها دون أمر قضائي، ويشمل ذلك بالتأكيد ما يسمى بشركات التحقق الأمني والتحقق من الهوية، والتي من المعروف أنها ليست سوى واجهة لأجهزة استخباراتية لدولة متهمة بالتورط في مجازر وإبادات جماعية وانتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان.
3- احترام حرية التعبير والرأي
يجب منع المنصات من لعب دور الشرطة الفكرية التي تقرر المسموح من الممنوع، وإجبارها على احترام حرية التعبير عن الرأي، والتوقف عن إملاء أجنداتها الفكرية والسياسية على مستخدميها، والالتزام الحياد بشأن كل ما لا إجماع عالمي عليه سواء كان سياسيًا أو ثقافيًا. فهناك مثلاً إجماع على محاربة التحرش بالقُصَّر ودعوات العنف الصريحة، وفي المقابل فإن القمع الفكري خلال العدوان على غزة، وإبان جائحة كورونا، والمحاربة المستمرة للآراء المحافظة فيما يتعلق بالثقافة الجنسية، هي من بين أمثلة كثيرة صارخة على تجاوز المنصات لكل الحدود في قمع حرية التعبير والرأي وفرض أجنداتها الخاصة على مستخدميها، ويجب أن يتم إجبارها فورًا على إيقاف ذلك.
منصات التواصل الاجتماعي
4- إدارةٌ أقل جشعًا للمحتوى
دون الخوض في تفاصيل تقنية، يمكن القول إن وجود الخوارزميات التي تحدد المنشورات المعروضة ضرورة تقنية بالمقام الأول ولا مفر منها، ولكن الجشع وسوء استخدام الخوارزميات أدى إلى ما يعرف بظاهرة الفقاعات الشخصية، وكذلك طفو التفاهات على حساب المثمر المفيد.
ثم استغلت المنصات الأمر كله بشكل أسوأ وانتقلت بين ليلة وضحاها إلى نموذج تجاري أكثر جشعًا يضع المُعلن والمستخدم تقريباً في سلةٍ واحدة، ونتج عنه قيامها بتقييد وصول المنشورات عموماً بشكل شديد الإجحاف، حتى أن معدل الوصول لبعض المنشورات لا يصل إلى واحدٍ بالأف من عدد المتابعين. ورغم أن جزءًا من ذلك الانخفاض يعود لأسباب طبيعية لا دخل للمنصات بها، إلا أن الجزء الأكبر هو أمر متعمدٌ ومخططٌ مسبقًا لأهداف تجارية بحتة.
لذا فإن المطلوب هنا هو ضمان نسبة وصول عادلة للمنشورات لا تقل عن ثلاثين بالمئة من عدد المتابعين، وأن ينخفض بشكل واضح مقدار الارتباط بين تفاعلات المتابعين وطبيعة الموضوعات من جهة ومعدل وصول المنشورات من الجهة الأخرى، وأن تكون الخوارزميات المستخدمة معلنة ومفتوحة المصدر يمكن للجميع الاطلاع عليها. كما يجب أن يكون هناك فصلٌ واضح بين منشورات من يتم متابعتهم والمنشورات المقترحة من غيرهم، وأن يكون الأساس هو عرض منشورات المُتابَعين وليس المنشورات المقترحة بناء على تقييم الخوارزميات لاهتمامات المستخدم. فالاستهداف بالإعلان التجاري بناء على الاهتمام أمرٌ مفهوم، ولكن الاستهداف في كل ما يُعرض هو خداعٌ وتزييفٌ للوعي وتضليل للمستخدم يرقى إلى درجة الجريمة.
5- حماية الصحة العقلية للمستخدمين
إن سجل هذه المنصات حافلٌ بممارسات مؤذية للصحة العقلية لمستخدميها كاستخدام الحيل النفسية التي تسبب الإدمان والقلق والتوتر والاكتئاب لهم وقد تدفعهم في طريق الإقدام على الانتحار في بعض الأحيان، ويجب أن توقف المنصات هذه الممارسات نهائيًا. ورغم أن الأمر مُلِّحٌ لكنه يستحيل عمليًا تحقيقه فورًا لأن المنصات أوغلت في استخدام هذه الحيل حتى أصبح جزءٌ كبير من قيمتها السوقية مرتبطٌ بنجاحها في تطبيقها، ولذا يجب أن يتم بشكل تدريجي خلال فترة زمنية محددة وقصيرة نسبيًا وفق خطة واضحة ومعلنة يتم الالتزام بها.
والآن وبعد أن حددنا بشكل واضح ما يجب على هذه المنصات فعله، فإنه يأتي السؤال الصعب: كيف يمكن أن نجبرها على الاستجابة لمطالبنا، ولعلنا نتحدث عن ذلك قريبًا بإذن الله.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news