حافظ الشجيفي
حين تقترب اللحظات الفاصلة في عمر الصراعات الكبرى، لا بد للغة أن تستقيم على جادة الحقائق، ولا بد للتحليل أن ينفذ إلى جوهر الأشياء بعيدا عن صخب الشعارات وضجيج التوازنات الهشة، إذ إن قراءة المشهد اليمني الراهن تستوجب منا استحضار روح التاريخ وفلسفة الجغرافيا، لنفهم كيف تدار الأزمات خلف الأبواب الموصدة وكيف تنعكس ظلالها على الأرض المشتعلة.
فما يجري اليوم من تحولات في مواقف القوى الفاعلة داخل التحالف العربي، وتحديدا في العلاقة بين السلطة الافتراضية وبين الواقع الميداني، يضعنا أمام استحقاق منطقي لا يقبل التأويل، فإذا كانت دولة الإمارات العربية المتحدة قد أعلنت انسحابها من دورها في التحالف بناء على رغبة أو طلب صدر عن رشاد العليمي، فإننا نجد أنفسنا أمام سابقة سياسية وقانونية تؤسس لمرحلة جديدة من التعامل مع التحالف برمته، فبالمنطق نفسه الذي غادرت به الإمارات، يصبح من الحق الأصيل والمشروع المطالبة بمغادرة المملكة العربية السعودية أيضا، ذلك أن المبدأ الذي يسري على شريك يجب بالضرورة أن يسري على الشريك الآخر، ما دامت المسطرة القانونية والسياسية واحدة.
حيث تضعنا هذه المفارقة أمام تساؤل جوهري حول طبيعة التدخل العربي الذي انطلق في عام ألفين وخمسة عشر، فإذا كانت مغادرة الإمارات قد تمت بقرار من العليمي دونما اعتبار لغطاء دولي أو إذن من مجلس الأمن، فإن ذلك يعني اعترافا صريحا بأن وجود التحالف في اليمن يستند حصرا إلى الدعوة اليمنية والسيادة الوطنية، وليس إلى تفويض مطلق من الشرعية الدولية، إذ لو كان وجود التحالف في اليمن مرتهنا بقرارات أممية تحت البند السابع، لما ملك العليمي ولا غيره سلطة إنهاء دور طرف دون موافقة المجتمع الدولي،
ومن هنا، فإن السيادة التي استحضرها العليمي لإنهاء دور الإمارات هي ذاتها السيادة التي يمتلكها النصف الآخر من الشرعية، المتمثل في عيدروس الزبيدي وقوى الجنوب، لإصدار قرار مماثل ينهي الدور السعودي، فالمعادلة السياسية التي قامت عليها مرحلة ما بعد هادي لا تمنح طرفا حقا وتسلبه من الآخر، بل تجعل من التوافق حجر الزاوية والقاعدة التي لا يستقيم البناء دونها.
وعندما نتفحص بنية مجلس القيادة الرئاسي، نجد أننا أمام كيان ولد من رحم الضرورة التوافقية، حيث لم تنتقل صلاحيات الرئيس عبدربه منصور هادي إلى شخص رشاد العليمي بصفته رئيسا للجمهورية، بل انتقلت إلى ثمانية أطراف مجتمعة بتمثيل متساوي في المسؤولية والقرار، مما يعني أن العليمي ليس سوى رئيس لفريق رئاسي وليس رئيسا للجمهورية يمتلك تفويضا مطلقا، وأي انفراد بالقرار من قبله يمثل انتهاكا صارخا لأسس اتفاق نقل السلطة الذي ينص بوضوح على أن التوافق هو شرط المشروعية الوحيد، وهذا الاختلال البنيوي في إدارة الدولة والقرارات المنفردة لا يبطل تلك القرارات فحسب، بل ينسف شرعية مجلس القيادة برمته، ويجعل من استمرار هذا النهج سببا كافيا لإعلان سقوط الارتباط السياسي بين الجنوب والشمال، لاسيما وأن الجنوب اليوم يمتلك كافة مقومات الدولة والقدرة الكاملة على حماية أراضيه والدفاع عن سيادته، مستندا إلى واقع مفروض بقوة التضحيات والانتصارات الميدانية.
ويزداد التناقض عمقا حين نرى أن قرارات العليمي لا تكتفي بتجاوز التوافق الداخلي، بل تتعارض صراحة مع قرارات الشرعية الدولية التي أوعزت مهمة تطبيق البند السابع لدول التحالف مجتمعة، مما يجعل من تصرفاته تجاوزا للصلاحيات الممنوحة له وتعديا على الإرادة الدولية التي لا يحق له التصرف فيها منفردا، وفي المقابل، إذا كان المجتمع الدولي والمنظومة الإقليمية يتعاملان مع الجنوب كجزء من الكيان اليمني، فإن للجنوبيين بصفتهم أصحاب الأرض والقرار الحق في امتلاك شرعية تتقدم على أي طرف خارجي وتتجاوز شرعية العليمي الذي يفتقر إلى الأرض والإرادة الشعبية والموارد، بل ويفتقر إلى أي انتصار حقيقي يمنحه وزنا في ميزان القوى،اذ إن قراراته في ظل هذا الفراغ تبدو مثل بوالين منفوخة بالهواء، ولا تستند إلا إلى القوة السعودية التي تحاول إسناد كيان يفتقد إلى الجذور والشرعية الميدانية.
لقد بات لزاما على الجميع إدراك أن اللعب على حبال الشرعية الافتراضية لم يعد يجدي نفعا أمام ثبات الحق الجنوبي، وأن الإصرار على تهميش القوى الفاعلة التي تمسك بزمام المبادرة على الأرض هو مقامرة باستقرار المنطقة برمتها، فالحقيقة التي لا يمكن حجبها بغربال البيانات الرسمية هي أن الجنوب يمتلك اليوم إرادته وقراره، وهو أقدر من غيره على رسم خارطة مستقبله بعيدا عن الارتهان لمنطق الوصاية أو التبعية لكيانات لم تعد تملك من أمرها شيئا، وإن هذا الوضوح في الرؤية والصلابة في الموقف هما الضمانة الوحيدة لاستعادة الحقوق وبناء واقع جديد يحترم إرادة الشعوب وتطلعاتها المشروعة في السيادة والاستقلال.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news