المجلس الانتقالي يفرض واقعاً سياسياً جديداً ويقترب خطوة حاسمة من استعادة دولة الجنوب
السيطرة السريعة على حضرموت والمهرة: إنجاز ميداني يعيد رسم خريطة الجنوب
العليمي يكتفي بالإدانة المتأخرة بعد أن حُسم المشهد ميدانياً
المجلس الانتقالي يملأ فراغ الدولة ويؤمّن المناطق الاستراتيجية دون قتال
إزاحة المنطقة العسكرية الأولى: استجابة لمطالب حضرمية قديمة
الجنوب لاعب لا يمكن تجاوزه في أي تسوية سياسية قادمة
شهد الوضع في اليمن تحولاً جذرياً هذا الشهر، حين سيطرت القوات الجنوبية بسرعة على محافظتين كبيرتين تشكلان نحو نصف مساحة البلاد: حضرموت، الغنية بالنفط والمتاخمة للسعودية، والمهرة، المتاخمة لسلطنة عُمان. ويمنح هذا الهجوم المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي ظلّ جزءاً من الحكومة المعترف بها دولياً لثلاث سنوات، سيطرةً فعليةً على معظم أراضي "جنوب اليمن" سابقاً، الدولة المستقلة قبل عام ١٩٩٠. كما يُقرّب هذا الهجوم المجلس خطوةً أخرى نحو تحقيق هدفه المتمثل في الاستقلال.
قد يبدو هذا الأمر من بعيد شأناً داخلياً بحتاً، ولكنه ليس كذلك. فالسعودية تنظر إلى حدودها الممتدة على مسافة 425 ميلاً، وإلى روابطها الثقافية العميقة مع حضرموت، كعناصر مهمة لأمنها القومي، وسلطنة عُمان تنظر إلى المهرة بالمثل. ويهدد هذا المأزق بتقويض الهدنة اليمنية الهشة التي استمرت ثلاث سنوات ونصف، مُجدداً حرباً لطالما صبّت في مصلحة الحوثيين المدعومين من إيران. وقد يزيد هذا الوضع من توتر العلاقات بين الحليفين الرئيسيين للولايات المتحدة، السعودية والإمارات.
الأحداث على أرض الواقع
في الثالث من ديسمبر، استولت القوات الموالية للمجلس الانتقالي الجنوبي على منشآت عسكرية ومبانٍ حكومية ومرافق نفطية في وسط وشمال حضرموت من القوات القبلية والعسكرية اليمنية المتحالفة مع السعودية. وفي غضون أيام، سيطرت هذه القوات على معظم حضرموت، ودخلت مدينة المهرة، ورفعت أعلامها على الحدود العمانية.
أثارت سرعة السيطرة دهشة معظم المراقبين، بل ودفعت البعض إلى التكهن بأن السعوديين والإماراتيين قد توصلوا إلى اتفاق لتسليم ذلك الجزء من البلاد بالكامل إلى المجلس الانتقالي الجنوبي. ولم يُصدر رئيس المجلس القيادي الرئاسي اليمني، رشاد العليمي، أي تصريحات علنية خلال الهجوم، كما لم يُصدر أوامر لقيادة المنطقة العسكرية الأولى التابعة للحكومة في حضرموت بالمقاومة. وبالفعل، سلمت معظم الوحدات الحكومية معسكراتها دون قتال، بينما تراجعت قوات درع الوطن، التي دربتها السعودية، بشكل كبير.
بعد أن هدأت الأمور، اتضح أنه لم يتم التوصل إلى اتفاق بين الرياض وأبوظبي، في حين أدان العليمي، متأخراً، عملية الاستيلاء باعتبارها عملاً أحادياً خطيراً يقوض الحكومة الشرعية. وفي خضم مطالب الرياض العلنية بالانسحاب الكامل، أقرّ مسؤولون إماراتيون، في جلسات خاصة، بضرورة خفض التصعيد، وأرسلت الدولتان وفداً مشتركاً إلى عدن، العاصمة المؤقتة للحكومة اليمنية، سعياً إلى إيجاد حل.
على أرض الواقع، تتصاعد التوترات باستمرار. فقد حشدت السعودية قوات من قوات الأمن القومي وقوات الطوارئ اليمنية على طول الحدود الشمالية، وأمّنت موقعين استراتيجيين رئيسيين: معبر الوديعة الحدودي ومفترق طرق العبر جنوباً، وكلاهما حيوي لإمداد خط المواجهة في مأرب ضد قوات الحوثيين غرباً. وذكرت صحيفة الغارديان أن الرياض هددت بشن غارات جوية على مواقع المجلس الانتقالي الجنوبي. كما أجلت المملكة ما تبقى من قواتها العسكرية من عدن، في إشارة إلى مسعى لعزل المجلس الانتقالي .
رداً على ذلك، لم يكتفِ المجلس الانتقالي بتعزيز سيطرته على حضرموت، بل أطلق أيضاً حملة جديدة في محافظة أبين المجاورة، وذلك في إطار مساعيه المعلنة "لمكافحة التهديدات المتطرفة" و"تعزيز الأمن والاستقرار في المناطق الجنوبية". وفي 21 ديسمبر/كانون الأول، أعلنت عدة وزارات وهيئات حكومية في عدن دعمها لتوسع المجلس الانتقالي الجنوبي و"تطلعات أهالي الجنوب".
لماذا الآن؟
بالنظر إلى الماضي، لا ينبغي أن تُثير هذه التطورات استغراباً كبيراً، لأنها متجذرة بوضوح في ديناميكيات محلية راسخة. ففي السابق، كانت السيطرة على حضرموت مُقسّمة بين قوات المجلس الانتقالي على طول الساحل، والقوات الموالية للسعودية في الوادي (المناطق الصحراوية الداخلية). ورغم أن هذا التقسيم الجغرافي له جذور تاريخية، إلا أن المنطقة حافظت أيضاً على هوية حضرمية شاملة قوية تدعم الحكم الذاتي المحلي لمجتمعات الساحل والوادي مجتمعة، سواء ضمن يمن موحد أو كجزء من دولة مستقلة.
لا تُعدّ حضرموت معقلاً تقليدياً للمجلس الانتقالي الجنوبي، لكن قادة المجلس يرون أن مواردها النفطية ضرورية لإقامة دولة انفصالية قابلة للحياة. مع ذلك، تُفضّل الرياض يمناً موحداً.
تصاعد التوتر بين هذه الأهداف المتنافسة خلال العام الماضي. فقد دعمت السعودية شخصيات قبلية مثل عمرو بن حبريش، الذي سيطر على حقول نفطية رئيسية في يناير/كانون الثاني، بينما كان المجلس الانتقالي يستعد للمواجهة. وبعد وقت قصير من الهجوم الأخير، صرّح ممثلو المجلس بأنهم يشعرون بضغط متزايد نتيجةً لحشد القوات السعودية في حضرموت وتراجع شعبيتهم كجزء من حكومة عاجزة عن تقديم الخدمات أو تخفيف حدة الفقر. ولمواجهة هذه الضغوط وحماية مشروع استقلالهم طويل الأمد، اتخذوا إجراءً استباقيًا. وقد يعكس هذا التوقيت أيضًا ترقبًا واسعًا لاستئناف محادثات السلام السعودية الحوثية، التي أحرزت تقدمًا ملحوظًا قبل أن تُعرقلها حرب غزة. وعلى وجه الخصوص، ربما سعى المجلس الانتقالي الجنوبي إلى استغلال رغبة الحوثيين المعلنة في الحصول على حصة من نفط اليمن، الذي يقع معظمه في حضرموت.
ومن العوامل البارزة الأخرى مساعي الإدارة الأمريكية الأخيرة لتصنيف بعض فروع حركة الإخوان المسلمين العالمية كمنظمات إرهابية أجنبية. تعارض الإمارات العربية المتحدة والمجلس الانتقالي الجنوبي بشدة نفوذ الإخوان في اليمن، بما في ذلك داخل الأجزاء المدعومة من السعودية في الحكومة اليمنية. (يضم حزب الإصلاح النسخة اليمنية من الإخوان المسلمين، وهو أيضاً جزء من الحكومة المعترف بها دولياً. وتتركز معاقله في مأرب وتعز، وبدرجة أقل في شمال حضرموت). ورغم أن إعلانات التصنيف الأمريكية لم تكن الشرارة المباشرة، إلا أنها وفرت سياقاً مناسباً للمجلس الانتقالي الجنوبي لتصوير هجومه على أنه حملة ضرورية ضد الإخوان، وكذلك ضد نفوذ تنظيم القاعدة في حضرموت. ووفقاً لممثلي المجلس الانتقالي ، تلعب كلتا الجماعتين دوراً في تسهيل تهريب الحوثيين للأسلحة من عُمان، وهو ما ينفيه حزب الإصلاح.
المخاطر والتوصيات
أدى استحواذ المجلس الانتقالي على السلطة إلى فتح باب واسع من الاحتمالات، معظمها يشير إلى تجدد الصراع. إذا فشلت السعودية والإمارات في احتواء التوترات، فمن المرجح أن يندلع قتال بين فصائل الحكومة اليمنية، بما في ذلك في وادي حضرموت. ورغم أن الرياض كانت بطيئة في التحرك في البداية، ولديها مجموعة من الجماعات المسلحة غير المنظمة، إلا أن مواردها المالية وفيرة وعلاقاتها واسعة، مما يمنحها وضعاً جيداً لاستغلال المعارضة المحلية للمجلس الانتقالي الجنوبي. وقد نشهد ديناميكية مماثلة في المهرة إذا قررت عُمان التدخل.
في نهاية المطاف، ستصبّ أي مواجهة من هذا القبيل في مصلحة الحوثيين. فمع انشغال القوات الحكومية، قد يقرر التنظيم اختبار تفوقه في محافظة مأرب شمال شرق البلاد (التي تضم حقول نفط) و/أو على طول ساحل البحر الأحمر (حيث تسيطر قوات المقاومة الوطنية المتحالفة مع الإمارات). ووفقًا لتقرير باشا ، فقد أعيد نشر العديد من قوات المجلس الانتقالي الجنوبي من محافظات أخرى، مما جعل قاعدة العند الجوية، إحدى أكبر المنشآت العسكرية في الجنوب، عرضةً لخطر توغل الحوثيين. ومن شأن المكاسب الإقليمية أن تمنح الحوثيين موارد إضافية لمواجهات مستقبلية مع الولايات المتحدة وحلفائها الخليجيين وإسرائيل. كما أن عدم الاستقرار في حضرموت سيخلق مساحة لتنظيم القاعدة وجماعات متطرفة أخرى لتشكيل تهديدات أوسع في اليمن وخارجه.
ثمة خطر آخر يتمثل في إعلان المجلس الانتقالي الجنوبي استقلاله سريعًا، الأمر الذي قد يدفع الحوثيين وقوى شمالية أخرى إلى إعادة تنظيم صفوفهم ضده. ويبدو أن قادة المجلس يدركون حتى الآن أن مثل هذا الإعلان سيُقابل بعزلة دولية، لذا فقد صاغوا تصريحاتهم وأفعالهم وحدّدوها وفقًا لذلك. مع ذلك، إذا حاولت الرياض والحكومة اليمنية عزل المجلس وتركه بلا أي مخرج آخر، فقد يقرر الأخير اغتنام هذه الفرصة.
باختصار، يواجه حلفاء الولايات المتحدة خطر الاصطدام في اليمن، لكن هذه النتيجة ليست حتمية. فالتدخل الأمريكي رفيع المستوى والمستمر وفي الوقت المناسب كفيل بتجنب إلحاق الضرر بالنفس. ولتحقيق هذه الغاية، ينبغي لإدارة ترامب اتباع نهج ذي شقين، يتمثل في جمع حلفاء الخليج بشكل عاجل لتهدئة الأزمة الراهنة، مع وضع الأسس لاتفاقيات أوسع نطاقاً على المدى البعيد.
خيارات مطروحة :
ينبغي السعي إلى حل وسط في حضرموت يُعالج المخاوف الأمنية الأساسية للمملكة العربية السعودية، مع مراعاة ديناميكيات القوة الجديدة على الأرض. أحد الخيارات المطروحة هو انسحاب جزئي لقوات المجلس الانتقالي ، وتولي قوات حضرمية محلية السيطرة على الوادي. وقد يكون تسليم المنطقة إلى عناصر حضرمية ضمن جبهة الأمن القومي المدعومة سعودياً - وهي قوات متجذرة محلياً ومتعددة التوجهات السياسية - خياراً مطروحاً. من شأن هذا النهج أن يُمكّن المجلس الانتقالي من نسب الفضل لنفسه في تأمين المنطقة وإزاحة قيادة المنطقة العسكرية الأولى (التي ينظر إليها كثير من الحضرميين، عن حق أو باطل، على أنها قوة "شمالية" فاسدة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحزب الإصلاح)، مع طمأنة الرياض بأن حلفاءها اليمنيين الموثوق بهم يؤمّنون الحدود.
يجب معالجة التحدي الأكبر المتمثل في توحيد جهود شركاء الولايات المتحدة في الخليج حول نهج مشترك تجاه اليمن. وفي مكالمته الهاتفية مع وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد في 17 ديسمبر/كانون الأول، ساهم وزير الخارجية ماركو روبيو في تحسين الوضع من خلال حثه على "الاستقرار" في الحرب ضد الحوثيين . ومع ذلك، من المرجح أن يتطلب توحيد موقف السعودية والإمارات تدخلاً مباشراً من الرئيس ترامب، الذي يتمتع بموقع فريد يُمكّنه من تيسير هذا التقدم نظراً لعلاقاته الوثيقة مع قادة البلدين. من جانبه، صرّح رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، عيدروس الزبيدي، علناً بأن قواته مستعدة لدعم القوات الأخرى ضد الحوثيين، وإن كان من المرجح أن يطلب ضمانات بمنح الجنوب حكماً ذاتياً أو تمهيداً لاستقلاله في المقابل.
على أي حال، فإن استكشاف حلول وسطية تُوَحِّد مصالح الشركاء الخليجيين واليمنيين يستحق الجهد المبذول. من الناحية المثالية، تستطيع الولايات المتحدة توحيد الضغوط المختلفة التي يمارسها هؤلاء الشركاء ضد الحوثيين، وفي الوقت نفسه اختبار مدى استعدادهم لقبول تسوية سياسية وطنية دائمة، أي اتفاق يُؤمِّن منطقة البحر الأحمر، ويُطمئن جيران اليمن، ويُلبي المطالب الداخلية بالتوازن السياسي واستقلال الجنوب. وبالمزيج المناسب من الضغط والمشاركة الأمريكية، يُمكن أن تُشكِّل أحداث حضرموت جرس إنذار طال انتظاره لاحتواء طموحات الحوثيين، وإنهاء الحرب الطويلة الأمد في البلاد، والحد من تداعياتها الإقليمية المُزعزعة للاستقرار.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news