- منصة غربية: الجنوب بات يقترب عمليًا من استيفاء معايير “الدولة القابلة للاعتراف”
تشهد دوائر القرار الغربي في الأسابيع الأخيرة حالة غير مسبوقة من إعادة التقييم العميق للمشهد اليمني، على وقع التطورات المتسارعة في الجنوب والانتصارات الميدانية التي حققتها القوات المسلحة الجنوبية بقيادة المجلس الانتقالي الجنوبي. هذا التحول لم يعد حبيس التقارير الهامشية، بل انتقل إلى صلب النقاش داخل أعرق المنابر البحثية والإعلامية المؤثرة في السياسات الدولية، وفي مقدمتها مجلتا
و
FYI
، اللتان عكستا بوضوح أن ما يجري في الجنوب لم يعد حدثًا محليًا، بل عاملًا مغيرًا لمعادلات الأمن الإقليمي والدولي.
ففي تقرير لافت نشرته مجلة
الأمريكية، وصفت فيه ما يحدث في اليمن بأنه أخطر تهديد مُهمَل في الشرق الأوسط، توقفت المجلة بشكل خاص عند التحركات العسكرية الجنوبية الأخيرة في حضرموت والمهرة مطلع ديسمبر، معتبرة أن هذه التحركات أحدثت “تحولًا زلزاليًا” في ميزان القوى داخل اليمن. التقرير أقرّ صراحة بأن الجنوب بات يمتلك زمام المبادرة على الأرض، وأن هذا التحول هو الأول من نوعه منذ عقود طويلة ظل فيها ميزان القوة يميل شمالًا أو يبقى معلقًا في حالة فوضى.
المجلة ربطت هذا التحول بسياق أوسع، مشيرة إلى أن الاعتقاد السائد بانحسار التوتر في البحر الأحمر واليمن عقب وقف إطلاق النار في غزة كان قصير الأمد، وأن ما جرى في الجنوب أعاد خلط الأوراق بالكامل. فالمجلس الانتقالي الجنوبي، بحسب التقرير، لم يعد مجرد طرف سياسي داخل حكومة معترف بها دوليًا، بل قوة تمتلك مشروعًا واضحًا، ودعمًا إقليميًا، وقدرة عسكرية على فرض الوقائع، الأمر الذي أدخل علاقته مع السعودية في دائرة توتر مكتوم، في ظل اختلاف الرؤى حول مستقبل الجنوب وتركيبة السلطة في اليمن.
ورغم أن التقرير حذّر من أن هذا التحول قد يمنح الحوثيين مبررًا لمحاولة التمدد شرقًا نحو مناطق النفط والغاز، مستندين إلى الدعم الإيراني وقدراتهم المتطورة في مجال الصواريخ والطائرات المسيّرة، إلا أن ما بين السطور كان أكثر دلالة. فقد اعترفت
ضمنيًا بثلاث حقائق جوهرية: أن القوة الجنوبية باتت واقعًا لا يمكن تجاهله، وأن ميزان القوى انقلب للمرة الأولى لصالح الجنوب، وأن أمن البحر الأحمر والممرات الدولية أصبح مرتبطًا مباشرة بمدى سيطرة الجنوب على جغرافيته وقدرته على إدارتها أمنيًا.
هذا الطرح يتقاطع بوضوح مع ما ورد في تقرير منصة
FYI
الغربية، التي ذهبت خطوة أبعد، حين ناقشت مسألة الاعتراف بدولة الجنوب من زاوية المصالح البحتة، لا من زاوية المبادئ أو العواطف السياسية. التقرير اعتبر أن فشل أدوات الردع التقليدية ضد الحوثيين، واستمرار تهديد الملاحة الدولية، يدفع الغرب للبحث عن شريك محلي قادر على فرض الاستقرار، ورأى أن الجنوب بات يقترب عمليًا من استيفاء معايير “الدولة القابلة للاعتراف”، من حيث السيطرة على الأرض، وبناء مؤسسات أمنية، والقيام بوظيفة إقليمية تخدم الأمن الدولي.
الأهمية السياسية لهذه التقارير لا تكمن فقط في مضمونها، بل في توقيتها وفي الجهات التي تقف خلفها. فهذه ليست منصات دعائية، بل أدوات تحليل تُستخدم لصياغة الخيارات أمام صُنّاع القرار في واشنطن والعواصم الغربية. وعندما تبدأ هذه المنابر في الحديث عن الجنوب كـ”مركز ثقل جديد” و”لاعب محوري” و”عامل استقرار محتمل”، فإن الرسالة تتجاوز حدود التحليل لتصل إلى مستوى التحذير الضمني لبعض دول الإقليم التي ما زالت تتعامل مع الجنوب بعقلية ما قبل 2015.
الرسالة السياسية هنا واضحة: الجنوب لم يعد ملفًا يمكن القفز فوقه أو تأجيله، ولم يعد مجرد ورقة تفاوض داخل تسوية يمنية متعثرة. ما يفرضه الجنوب اليوم هو معادلة جديدة تُكتب على الأرض، وتُقرأ في العواصم الكبرى، وتربط بين مكافحة الإرهاب، وتأمين خطوط الطاقة والملاحة، والحد من النفوذ الإيراني. وهو ما يعني أن أي محاولة لتهميش هذا الواقع أو الالتفاف عليه لن تؤدي إلا إلى مزيد من عدم الاستقرار.
في المحصلة، تكشف هذه التقارير أن الغرب، حتى دون إعلان سياسي مباشر، بدأ يتعامل مع الجنوب بوصفه كيانًا يتشكل، ودولة بحكم الأمر الواقع بحدودها السابقة، وأن مستقبل اليمن والمنطقة لن يُحسم بالبيانات الدبلوماسية وحدها، بل بالوقائع التي يفرضها الجنوب بثبات. وهي رسالة سياسية صريحة إلى الإقليم مفادها أن زمن تجاهل الجنوب قد انتهى، وأن من لا يقرأ التحولات اليوم، سيدفع ثمنها غدًا.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news