وكالات
تحلّ الذكرى الخمسون لرحيل كوكب الشرق أم كلثوم، فيستعيد العالم العربي صوتًا لم يكن مجرد ظاهرة فنية عابرة، بل جزءًا أصيلًا من الذاكرة الجماعية والوجدان الثقافي للأمة. خمسة عقود مرّت منذ غيابها في 3 فبراير 1975، غير أن حضورها لا يزال متجددًا، يتجاوز حدود الزمن والأجيال، مؤكّدًا أن الفن الحقيقي لا يشيخ ولا يموت.
لم تكن أم كلثوم مطربة فحسب، بل مشروعًا فنيًا وثقافيًا متكاملًا، شكّل علامة فارقة في تاريخ الموسيقى العربية. بصوتها الاستثنائي، وقدرتها الفريدة على التطريب والسيطرة على المقامات، أعادت تعريف العلاقة بين المغني والجمهور، وحوّلت الحفلة الغنائية إلى طقس جماعي ينتظره الملايين من المحيط إلى الخليج.
وتتخذ فعاليات إحياء الذكرى الخمسين طابعًا خاصًا، إذ تتنوّع بين حفلات موسيقية، وندوات فكرية، ومعارض أرشيفية، وأمسيات إذاعية وتلفزيونية، تُعيد تسليط الضوء على مسيرتها الحافلة، وعلى الأثر العميق الذي تركته في الثقافة العربية. ففي القاهرة، مسقط رأس مجدها الفني، تُنظَّم حفلات تُعاد فيها أعمالها الخالدة بتوزيعات تحترم الأصل، بينما تُعرض تسجيلات نادرة وصور ووثائق تُبرز محطات مفصلية من حياتها.
وُلدت فاطمة إبراهيم البلتاجي في قرية طماي الزهايرة بمحافظة الدقهلية، وانطلقت من بيئة ريفية متواضعة، لتشقّ طريقها نحو القمة بموهبة فطرية، مدعومة بانضباط صارم وثقافة موسيقية واسعة. لم تصعد سلم النجومية سريعًا، بل صاغت مجدها خطوة خطوة، حتى تحوّلت إلى رمز عربي جامع، وصوتٍ يختصر لحظات الفرح والحزن والانكسار والأمل.
وتكمن فرادة أم كلثوم في قدرتها على الجمع بين الطرب الأصيل والتجديد المدروس. فقد تعاونت مع كبار الشعراء والملحنين، من أحمد رامي وبيرم التونسي إلى محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وبليغ حمدي، ما أتاح لها بناء رصيد فني ضخم، تنوّعت فيه الموضوعات بين العاطفة والوطن والروحانيات، دون أن تفقد هويتها الفنية.
لم يكن تأثير أم كلثوم فنيًا فقط، بل امتد إلى المجالين الاجتماعي والسياسي. فقد شكّلت أغنياتها الوطنية خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي رافعة معنوية للشعوب العربية، خصوصًا بعد نكسة 1967، حين تحوّل صوتها إلى أداة دعم وجمع تبرعات للجيش، في مشهد نادر يجمع الفن بالفعل الوطني.
وتحمل الذكرى الخمسون بعدًا تأمليًا خاصًا، إذ تُطرح تساؤلات حول مكانة الفن في زمن السرعة والانتشار الرقمي. فبينما تتغير أنماط الاستماع، وتُختصر الأغنية في دقائق معدودة، لا تزال أعمال أم كلثوم، التي تمتد أحيانًا لأكثر من ساعة، تحظى بإقبال لافت، خاصة من فئة الشباب، ما يعكس حاجة دفينة إلى الفن العميق القادر على لمس المشاعر بصدق.
ويُجمع نقّاد الموسيقى على أن أم كلثوم شكّلت مدرسة قائمة بذاتها، يصعب تكرارها أو استنساخها. فهي لم تعتمد على الصوت وحده، بل على ذكاء فني في اختيار النصوص، وإدارة الفرقة الموسيقية، والتفاعل اللحظي مع الجمهور، ما جعل كل حفلة تجربة مختلفة، وكل أداء نسخة فريدة لا تُعاد.
كما لعبت الإذاعة العربية دورًا محوريًا في ترسيخ أسطورتها، إذ تحوّلت حفلاتها الشهرية إلى موعد ثابت، تتوقف خلاله الشوارع والمقاهي، في مشهد يعكس مكانتها الاستثنائية في الوعي الجمعي. ولم يكن هذا الحضور نتيجة دعاية عابرة، بل ثمرة ثقة متبادلة بينها وبين جمهور أدرك أن ما تقدّمه يتجاوز الترفيه إلى بناء الذائقة.
وفي زمن تتسارع فيه التحوّلات، تبدو الذكرى الخمسون لرحيل أم كلثوم فرصة لإعادة التفكير في معنى الخلود الفني، وفي قيمة التراث الموسيقي بوصفه جزءًا من الهوية الثقافية. فصوتها، الذي عبر الحدود واللغات، لا يزال قادرًا على توحيد المستمعين حول تجربة إنسانية مشتركة، تُذكّر بأن الفن الصادق هو اللغة الأكثر بقاءً.
بعد خمسين عامًا على رحيلها، لا تزال أم كلثوم حاضرة، لا كذكرى مؤلمة، بل كيقين ثقافي راسخ، يؤكد أن بعض الأصوات خُلقت لتبقى، وأن كوكب الشرق لم يأفل، بل تحوّل إلى نجم دائم في سماء الفن العربي.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news