حين نجلس حول مائدة الوقائع الصلبة، بعيدا عن الانشاء الدبلوماسي والمجاملات التي تفرضها موازين القوى في اروقة نيويورك، نجد انفسنا امام حقيقة لا تقبل التأويل، وهي ان الخريطة التي رسمت بالدم والحديد في صيف عام اربعة وتسعين قد سقطت عمليا تحت اقدام الجماهير في عدن والمكلا، وما دعوة الامين العام للامم المتحدة انطونيو غوتيريش التي اطلقها مؤخرا الا محاولة يائسة لترميم زجاج تهشم تماما، فالرجل حين يتحدث عن الاجراءات الاحادية في حضرموت والمهرة، انما يقر بلسان حاله ان قبضة المركز في صنعاء، ومن خلفها ادوات الاحتلال اليمني، قد تراخت الى حد التلاشي، وان هناك واقعا وطنيا جديدا يتشكل في الجنوب بقرار سيادي عسكري شعبي لا ينتظر اذنا من احد، والقراءة المتأنية لهذا الخطاب الاممي تكشف لنا عن فجوة هائلة بين منطق الشرعية الدولية المتشبث بهياكل وهمية، وبين منطق الشرعية الثورية التي يسطرها شعب الجنوب الذي يرى في اليمن خصما ومحتلا لم يترك له خيارا سوى المواجهة واستعادة الهوية، ومن هنا، فان التحذير من التشرذم الذي ساقه غوتيريش ليس في جوهره خوفا على اليمن، بقدر ما هو خوف على مصالح القوى الكبرى التي تخشى من ولادة دولة جنوبية قوية ومستقلة تتحكم في اهم الممرات المائية في العالم، دون ان تكون رهينة لاجندات الشمال المتصارعة، والحق ان المسار السياسي الذي يدعو اليه غوتيريش لن يفتح ابواب الحل الا اذا ادرك المبعوث الاممي هانس غروندبرغ ان القضية الجنوبية ليست مجرد بند في جدول اعمال، بل هي جوهر الصراع وبداية الحل، وان اي قفز فوق تطلعات الاستقلال هو بمثابة صب الزيت على النار، فالجنوب اليوم ليس هو جنوب الامس، والحراك الشعبي الذي نراه في حضرموت والمهرة ليس مجرد احتجاجات مطلبية، بل هو استفتاء حي وبالدم على هوية الارض وانتماء الانسان، وهو ما يضع الامم المتحدة امام اختبار اخلاقي وتاريخي، فاما ان تنحاز لحق الشعوب في تقرير مصيرها، واما ان تظل مظلة لاستمرار احتلال يمني اثبتت الايام انه عاجز حتى عن حكم نفسه، فضلا عن حكم شعب يرفضه بالفطرة والتاريخ، لذا فان دعوة غوتيريش لخفض التصعيد لا ينبغي ان تفهم كدعوة للاستسلام او القبول بالامر الواقع المفروض من صنعاء، بل هي فرصة للجنوبيين لانتزاع اعتراف دولي بكيانهم السياسي المستقل، خاصة وان العالم بات يدرك ان تأمين البحر الاحمر وخليج عدن لا يمكن ان يتم عبر ادوات الفوضى في الشمال، بل عبر دولة مستقرة في الجنوب تمتلك الارض والارادة، فيما ان الملف الانساني الذي اثاره الامين العام، وبخاصة قضية الموظفين الدوليين المختطفين لدى جماعة الحوثي، يظهر وبجلاء طبيعة الخصم الذي يواجهه الجنوب، وهو خصم لا يحترم عهدا ولا ميثاقا، مما يعزز القناعة الجنوبية بان فك الارتباط ليس مجرد خيار سياسي، بل هو ضرورة وجودية للحفاظ على كرامة الانسان وحريته، وعلى هذا الاساس، فان التحليل الرصين للمشهد يشير الى ان دعوة غوتيريش قد تكون هي المدخل القانوني الذي سيتيح للقضية الجنوبية ان تطرح بثقلها الكامل على طاولة مجلس الامن كقضية تصفية استعمار واستعادة دولة، بعيدا عن متاهة الوحدة اليمنية التي دفنت الى الابد، فالواقع يقول ان الارض تتحدث بلغة الجنوب، والتاريخ يكتبه الصامدون في الميادين، بينما تظل التقارير الاممية صدى لما يدور في الميدان، ومن هنا فان الذكاء السياسي يقتضي منا ان نحول هذه الدعوات الدولية الى منصة لاطلاق مشروع الاستقلال الناجز، مؤكدين للامين العام وللعالم اجمع ان سلام المنطقة واستقرار الممرات الدولية لن يتحققا الا بقيام دولة الجنوب المستقلة، كحائط صد ضد الفوضى وشريك اصيل في بناء مستقبل المنطقة، بعيدا عن هيمنة المحتل اليمني الذي لم يجلب للجنوب سوى الدمار والخراب طيلة عقود من الزمن.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news