فيلم "الست": سيرة ذاتية تقبل يد الأسطورة ولا تجرؤ على عناقها

     
عدن حرة             عدد المشاهدات : 33 مشاهده       تفاصيل الخبر       الصحافة نت
فيلم "الست": سيرة ذاتية تقبل يد الأسطورة ولا تجرؤ على عناقها

عبدالرحيم الشافعي

عرض الفيلم المصري “الست” الذي أخرجه مروان حامد في مهرجان مراكش الدولي للفيلم، ضمن عرضه العالمي الأول. وبينما صرفت مئات الملايين على إنتاج فيلم سيرة ذاتية لأم كلثوم، ويجتمع مروان حامد وأحمد مراد ومنى زكي وسط زخم إعلامي وتوقعات جماهيرية وصلت حد الهستيريا، يطرح السؤال المركزي الحقيقي، سؤال محرج بقدر ما هو مشروع: هل يمكن لفيلم أن ينجو من ثقل الأسطورة التي يحاول أن يرويها، أم أن الرهبة نفسها هي ما ستخنقه؟

برز فيلم “الست” للوهلة الأولى وكأنه يملك كل مقومات النجاح المبهر، أي إنتاج ضخم، بصريات مُدهشة، موسيقى أم كلثوم الأصلية، ممثلة في قمة نضجها، مخرج يُجيد اللمسة الفخمة، لكن سرعان ما يتسلل شعور خفي وأكثر إزعاجا، شعور يُؤكد أن الفيلم يقف مذهولا أمام بطلته، فيؤله أم كلثوم كتمثال رخيم يخشى الاقتراب منه، ويحوّل السيرة الذاتية إلى احتفالية رسمية مُحنّطة، بينما المتوقع بكل بسيطة سيرة ذاتية أكثر واقعية وأكثر جرأة.

وتكمن الإشكالية الأولى في التناقض الذي يحكم الفيلم بأكمله، إذ يريد مروان حامد إنجاز عمل شعري وتأملي وغير تقليدي، لكنه يخاف في الوقت ذاته من الإمساك بأم كلثوم بجرأة، ويخاف من غضب الجمهور، ومن اللوم على أي خطأ تاريخي أو فني أو عاطفي. ويُنتج هذا الخوف نوعا من التبجيل المُشلول، لقطة تضخم ومونتاج يتلاعب وحوارات تم اختيارها بعناية حتى لا تدنس المقدس.

وتظل الشخصية الرئيسية بعيدة، منزوعة الأحشاء تقريبا لأن السيرة الذاتية بكل بساطة فيها ما فيها من السلبيات والايجابيات، ومنى زكي اجتهدت بقدر جهدها، لكن دورها لا يكشف لنا أم كلثوم الخشنة، ولا الطفلة الخائفة من صوتها، ولا المرأة التي خاضت معارك ضارية مع الرجال والسلطة والمرض والوحدة، بينما يُلمَّع كل شيء ويُجمَّل ويُنظَّف من أي شائبة يمكن أن تُزعج هالة الأسطورة، وحتى اللحظات الدرامية القوية؛ الخلاف مع القصبجي، العلاقة الملتبسة مع الملك، المرض، الشيخوخة، تمرّ بأسلوب عصري بينما كل الحكاية كانت في الزمن الجميل.

ويسقِط السيناريو نفسه في الهفوة الأكبر التي تهدد المشروع كله، حينما يعلن منذ البداية أنه لن يقلّد ولن يحاكي ولن يوثّق، لكنه في النهاية لا يفعل سوى ذلك، ويستخدم الأبيض والأسود والألوان دون إضافة سردية، ويقحم مشاهد استعراضية مُبهرة بصرياً لكنها فارغة درامياً، ويغرق في تأملات حول الصوت والذاكرة عوض أن يحكي قصة إنسانة من لحم ودم وحتى لحظة الأولمبيا التي يفترض أن تكون ذروة تتحول إلى صورة فاخرة بلا ألم ولا نشوة ولا أثر.

ويبقى السؤال الأكثر إلحاحاً بعد ثلاث ساعات من الإبهار البصري والموسيقي: لماذا خاف الفيلم من أم كلثوم؟ لماذا لم يُحبها بما يكفي ليُجرحها ويُعرّيها ويُشوّهها؟ لماذا اكتفى بتقبيل يد الأسطورة عوض أن يقترب منها بصدق وجسارة؟

وربما مشاهد فيلم “الست” بصريا أحدثت جمالاً كبيرا، لكنه جمال المتحف وجمال التمثال الذي لا يتنفس. وتتشكل مأساته الحقيقية في أنه امتلك كلّ الأدوات اللازمة لصنع تحفة حقيقية، لكنه اختار عن قصد أو عن غير قصد أن يُشيّد نصبا تذكاريا لا حياة فيه.

ويفتقد سيناريو السيرة الذاتية، الذي ألفه أحمد مراد، الجرأة الحقيقية التي وعد بها صنّاع الفيلم في المؤتمرات الصحفية. ورغم الإعلان عن كشف الجانب الإنساني المعقد لأم كلثوم، فإن العمل يظل حذرا، لأنه يتجنب تمامًا أي إشارة ولو ضمنية إلى الصراعات الشهيرة التي نُسبت إليها تاريخيًا، أي حملتها ضد صعود فريد الأطرش، تهميشها المزعوم لعبدالحليم حافظ في فترة معينة، أو حتى الشائعات القديمة المرتبطة بحادثة وفاة أسمهان. وهذا الغياب المتعمد يُفرغ السيرة الذاتية من وظيفتها الأساسية وهي إعادة تقييم الشخصية التاريخية، فيتحول الفيلم إلى عمل تكريمي يحاول أن يقنع.

ويغلب على الفيلم صخب موسيقي مستمر ومُرهق يمتد لثلاث ساعات تقريبا لأن المونتاج الصوتي يعتمد على تداخل مكثف لأغاني أم كلثوم الأصلية مع مؤثرات درامية مُضخمة وموسيقى تصويرية إلكترونية حديثة، وهذا خلق ضجيجًا يحول دون تأمل المتفرج في المشاهد الهادئة التي تتطلبها سيرة ذاتية حقيقية بدون تزييف، وهذا الخيار يتناقض مع طبيعة صوت أم كلثوم نفسه الذي كان يقوم على الفراغ والتنفس والصمت بين اللقطة والأخرى، فيصبح الجمهور أسيرًا لتسونامي صوتي يُفقد المَشاهد تركيزه ويُضعف التأثير العاطفي.

تظهر منى زكي أداءً ملتزما ومُجهدا بدنيا، لكنها تبقى أسيرة تضخيم السيناريو لشخصية أم كلثوم كرمز شبه ميثولوجي، بينما هشاشة منى زكي الطبيعية وهي ميزة في أدوار أخرى تتعارض مع الشراسة الذكورية التي وصفت بها أم كلثوم من قبل معاصريها، من محمد القصبجي إلى رياض السنباطي إلى مديري أعمالها، لكن الحوارات تلزمها بأن تكون صلبة، لكن دون أن يُعطيها أدوات درامية كافية لتجسيد تلك الصلابة، فنشاهد الشخصية مُفلترة ومُجمَّلة أكثر من اللازم، وتفتقر إلى الخشونة الحقيقية التي كانت تُرعب من حولها.

ويعتمد الفيلم أسلوبه المكثف وغير المُعلن على الديكورات والخلفيات المولَّدة بالذكاء الاصطناعي، خاصة في مشاهد القاهرة في الثلاثينات والأربعينات وفي حفلة الأولمبيا. ورغم الدقة التقنية المُذهلة أحيانًا، فإن الصورة تظل باردة ومصطنعة، تفتقر إلى حرارة المادة التناظرية والتفاصيل العضوية التي تمنح الأفلام التاريخية مصداقيتها الحسية خاصة الكلاسكية ذات الصورة الجمالية المتفردة، وهذا الاعتماد الواسع على التكنولوجيا الحديثة يوحي مستقبلا بأن مهنة فنان المونتاج وفنان الإضاءة ومدير التصوير ستصبح في خبر كان دون أن يُشير إليه أي ناقد أو صانع حتى الآن، ويُثير تساؤلا أخلاقيا وجماليا: هل يحق لفيلم يعد سيرة ذاتية لفنانة مشهورة أن يُبنى على وهم بصري مُبرمج؟

ويتبنى مروان حامد لغة إخراجية عصرية سريعة ومُقطَّعة تتناسب مع أفلام السيرة الذاتية الغربية المعاصرة، لكنها تتصادم مع طبيعة المادة التاريخية العربية الكلاسيكية، إذ إن القفزات الزمنية المتكررة والمونتاج المتسارع يحولان دون بناء درامي متماسك، ويجعلان الفيلم يبدو كسلسلة من الكليبات المتصلة أكثر من كونه سردا سينمائيا متكاملا خاصة بين فلاش باك عصري وحاضر كلاسيكي.

ويغيّب الفيلم أي نقاش حول جنس فيلم السيرة الذاتية نفسه، فهل نحن أمام عمل وثائقي درامي أم أمام خيال مبني على وقائع أم أمام تكريم رسمي؟ وهذا الغياب المنهجي يُربك المتفرج ويُضعف الموقف النقدي للعمل، هذا إن لم يكن يريد التمتع بمزايا السيرة الذاتية دون الالتزام بمسؤولياتها الأخلاقية والتاريخية، وأقصد هنا جزءا من تاريخ لا يمكن فضحه جملة وتفصلا، لكن أفلام السير الذاتية تحتاج إلى إخلاص في نقل التاريخ الحقيقي قدر المستطاع.

ويعبّر هذا العمل السينمائي الضخم عن أزمة السينما العربية المعاصرة في التعامل مع أيقوناتها، فإما تقديس مطلق أو تشهير مطلق بينما فيلم “الست” يقع في المنطقة الرمادية الآمنة، كونه يبرز بعض الهشاشة لكنه يُسارع إلى تعويضها بلحظات انتصار وطني أو فني مُضخم، والنتيجة عمل محافظ جوهريًا، بينما يُعيد إنتاج الصورة الإشهارية الرسمية لأم كلثوم كسيدة الغناء العربي وصوت الأمة دون مساءلة حقيقية للسلطة التي مارستها على جيل كامل من الموسيقيين والملحنين، وهذا التقديس المُقنَّع بالحداثة البصرية يجعل متتاليات مشاهد الفيلم للسينما والابهار وليس للإلهام المتوقع من تاريخ فنانة مكافحة.

ويُثبت الفيلم رغم عيوبه، أن الجمهور العربي لا يزال يُبهره المظهر البصري المُذهل والأسماء الكبيرة أكثر من المضمون والصدق، فنجاح الفيلم في مراكش وتفاعل الجمهور على وسائل التواصل يعكسان أزمة أعمق في التلقي النقدي، أي نُصفق للصورة المُصقولة حتى لو كانت تحمل رسالة مُزيَّفة أو ناقصة. ورغم طموحه التقني والإنتاجي الهائل، فإنه يظل أسير الرهبة من أيقونته “الست” كعمل جميل المظهر، مُبهر تقنيًا، مُؤثر عاطفيًا في لحظات، لكنه يفشل في أن يكون سيرة ذاتية حقيقية، ويبقى تكريمًا مُقدَّمًا بثوب حديث، ويؤكد مقولة قديمة: في السينما العربية، لا يزال من المستحيل تقديم عمل فني كبير عن شخصية كبيرة دون أن يتحول العمل إلى ضريح مُتحرك.

العرب

شارك

Google Newsstand تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news


تابعنا على يوتيوب

تابعنا على تويتر

تابعنا على تيليجرام

تابعنا على فيسبوك

اول محافظ ينشق عن الشرعية

كريتر سكاي | 1277 قراءة 

ماذا قال ؟ولمن وجه دعوته عبر هذا الاجتماع العسكري الرفيع .. اللواء سلطان العرادة يوجه اول رسالة عسكرية الى قوات الانتقالي والحو...ثيين من قلب اليمن النابض مأرب

المشهد الدولي | 972 قراءة 

أول محافظ يتمرد ويصدر هذا التعميم لجميع المعسكرات والوحدات الأمنية!

يمن فويس | 686 قراءة 

وزير الخارجية الأسبق ‘‘أبوبكر القربي’’ يفجر مفاجأة بشأن بيان بكين الثلاثي الخاص باليمن

المشهد اليمني | 594 قراءة 

كتيبة حماية منفذ الوديعة تصدر بياناً بعد دخول الآليات العسكرية السعودية

المرصد برس | 556 قراءة 

السعودية تكشف اتفاقاً جديداً وتطالب قوات الانتقالي بمغادرة حضرموت والمهرة

نيوز لاين | 518 قراءة 

عيدروس الزبيدي يضحك فرحا ويؤكد بان الجنوب اليمني يقف أمام مرحلة مصيرية ووجودية (صورة)

المشهد الدولي | 509 قراءة 

إعلام المجلس الانتقالي يهاجم الوفد السعودي ورئيس اللجنة الخاصة

شبكة اليمن الاخبارية | 497 قراءة 

عن احداث محافظات شبوة وحضرموت والمهرة .. بن دغر يكشف عن موقفه بكل صراحه ويصدر بيان في صفحاته على منصات التواصل الاجتماعي للاحزاب والمكونات السياسية

المشهد الدولي | 491 قراءة 

تحرك عسكري لافت.. شهود عيان يؤكدون وصول قوات سعودية إلى منفذ الوديعة اليمني

موقع الأول | 489 قراءة