أ.د مهدي دبان
(الحلقة الأولى)
بعد مرور ٢٧ عاماً من العمل في المجال الأكاديمي، بين قاعات التدريس ومختبرات البحث العلمي في جامعة عدن، أقف اليوم أمام هذه السنين كمن يستعيد شريطاً طويلاً من نور وظلال… إخفاقات ونجاحات، تميز وانكسار، أحلام تحققت وأخرى بقيت في خانة الانتظار.
ومع كل هذا، فإنني — وبالأمانة المطلقة — لم أشعر يوماً أن ما قدمته كان عملاً عظيماً أستحق عليه التمجيد، ولا سعيت إلى فضل على أحد. كنت فقط أعمل ما استطعت، بصدق وإخلاص، فإن وفقت فذلك من فضل الله وحده، وإن أخفقت فذلك من طبيعة البشر… وأنا أحدهم. أحمد الله على كل خطوة، وأسأله رحمته التي لا حد لها، وأن يكتب لي الأجر فيما أخطأت أو أصبت.
ومع طول الرحلة تبقى محطات لا تُنسى، مواقف صنعتني، وشخصيات تركت بصمتها في داخلي…
ومن بينها — لا على سبيل الحصر — حكايتي مع الأستاذ عبدالرحمن بامسعود، وحكايتي الأخرى التي بطلها هذه المرة الأستاذ محمد إبراهيم.
✦ الحكاية الأولى: امتحان العمر… وبداية الطريق
قدمت إلى عدن وأنا صغير لألتحق بمدرسة الشهيد خالد هندي (سيف بن ذي يزن حالياً)، بعد أن أصر أخي الأكبر — جزاه الله عني خير الجزاء — على نقلي إلى المدينة لأتعلم رفقة أولاده.
لكنهم رفضوا تسجيلي في الصف بسبب صغر سني… كنت أصغر من أقراني بعامين كاملين.
رفضوا… وأنا أصررت ألا أعود إلى الصفوف الدنيا.
حينها ظهر الأستاذ عبدالرحمن بامسعود — رحمه الله — مدير المدرسة. لم يتمسك باللوائح الجامدة، ولم يرفع شعار “النظام لا يسمح”، بل قال:
"سأختبرك… فإن نجحت دخلت صفك، وإن رسبت تعود للصفوف الدنيا."
أُجريت لي الاختبارات في الإجازة الصيفية، ورغم قدومي من الريف تفوقت… وكان القبول وكانت البداية.
---
✦ الحكاية الثانية: حين ضاع الحق… ثم عاد
في الصف الثالث الثانوي، في ثانوية عبدالله عبدالرزاق باذيب (إبان حالياً)، كنت من المتفوقين والحمد لله.
لكن حدث خطأ قلب الموازين…
تم رصد درجتي في مادة التربية الإسلامية التي يدرسها لنا الأستاذ الرائع والإعلامي المتميز محمود مدي خطأً:
٩٦ أصبحت ٦٩، وانخفض معدلي ولم أكن من الأوائل.
ذهبت إلى المربية وإلى الأستاذ مدي ومعي أوراقي التي تثبت درجتي الحقيقية. لكن المربية قالت إن “الكروت جاهزة”، ولا يوجد كرت فاضي لاستبداله.
فاتجه الأستاذ محمود مدي إلى المدير… وكان المدير حينها الأستاذ محمد إبراهيم، المربي الفاضل الإنسان.
استمع إليهم بهدوء، ثم ذهب بنفسه إلى إدارة الامتحانات داخل سور المدرسة. طلب كرتاً إضافياً بصورة استثنائية… لكنهم رفضوا.
عاد إلى مكتبه، ناداني، وقال لي بنبرة الأب الحاني:
"اسمع يا بني… أعرف أنك صاحب حق، وأنا معك قلباً وقالباً، لكن الأمر ليس بيدي الآن. استلم كرتك كما هو، وأنا سأعلن في حفل التكريم أنك صاحب المرتبة الثانية أمام الجميع، بحضور المحافظ. وبعد الحفل سنحاول تعديل الكرت مرة أخرى."
وافقت…
وفي الحفل أعلن الأستاذ محمد إبراهيم حقيقة ترتيبي، وحين سمع المحافظ الراحل الأستاذ محمود عراسي — رحمه الله — بذلك، دعاني إلى المنصة وقال لي:
"لا تقلق… حقك سيصلك."
وطلب مني ألا أنزل من المنصة حتى نهاية الحفل.
وبعد أيام قليلة، تم تعديل الكرت… وعاد الحق لأهله.
✦ هذه المواقف لم تكن مجرد ذكريات… بل دروس حياة.
رجال مروا بنا، فتركوا في النفس أثراً لا يُمحى.
رحم الله الأستاذ عبدالرحمن بامسعود، ورحم الله الأستاذ محمد إبراهيم، وكل رجالات تلك المرحلة النبيلة وجزاهم الله عنا خير الجزاء ....
هذه الحلقة الأولى من سلسلة "ذكريات وشخبطات"...
والقادم يحمل الكثير مما نسجه الزمن في القلب والذاكرة.
.
//
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news