من وحي الجلسة الختامية في ملتقى غرفة ١٩
(الناس يصنعون تاريخهم ولكن ليس على هواهم بل في ظل ممكنات مُعطاة لهم سلفًا من بيئاتهم؛ فالأموات يتشبثون برقاب الأحياء دائمًا) ك.م.
هكذا إذن تتشكل أولى حواس الجنين قبل أن تعرف الأم الحامل أن جنينًا يسكن رحمها؛ وأول الحواس اللمس، وتليها الحواس الأخرى بالترتيب (الشم، التذوق، السمع، البصر). ومعنى هذا أن الطفل الإنساني يتأثر بكل ما يحيط به من مؤثرات حسية مباشرة في بيئة حياته الداخلية، كما يحدث له بعد الولادة في بيئة حياته الخارجية.
ورغم أن الجنين يعيش في موضع مكين، إلا أنه يتأثر بما تتأثر به أمه؛ لذلك ينصح الأطباء بأهمية رعاية الأمهات الحوامل وتوفير ظروف حياة صحية وآمنة ومطمئنة ووجبات غذائية صحية ومغذية لا ينقصها أي عنصر من الفيتامينات والمعادن التي يحتاجها جسمها وجسم طفلها. فالنقص في البروتين أو الأملاح أو الفيتامينات يضر الجنين، فضلًا عن منع الحوامل من تناول أي عقاقير طبية دون استشارة الطبيب المختص.
وهذا معناه أن بيئة الحياة واحدة في مرحلتيها الداخلية والخارجية؛ فبيئة الجنين الداخلية ليست معزولة عن بيئة أمه الخارجية. فالبيئة هي كامل الوسط الحي الذي يحيط بالكائن الحي من جميع الجهات، من فوق ومن تحت ومن الجنوب ومن الشمال. إنها وسط الكينونة بكل مكوناته الحية وغير الحية، الذي يتفاعل معه الإنسان مؤثرًا ومتأثرًا بشكل يكون معه العيش مريحًا فسيولوجيًا ونفسيًا. وهي الإطار الذي يعيش فيه الإنسان ويحصل منه على مقومات حياته من هواء وغذاء وكساء ودواء ومأوى، ويمارس فيه علاقاته مع أقرانه من نوعه وأنواع الحياة الأخرى.
فكل تلك الخبرة الحياتية المخصبة والممزوجة في عالم الممارسة منذ ما قبل الولادة تتراكم وتنحفر في جسد الكائن ودماغه، وتظل معه طول حياته حتى مماته بوصفها كل ما تمكن المرء من المرور به وخبره في حياته العابرة في هذه الدنيا الفانية. أما ما يجهله فلا وجود له ولا تأثير في حياة الكائن العاقل؛ إنه يشبه العدم المطلق. أقصد الجهل التام حتى لا يروح بالكم بعيدًا!
فمن هو ذا الذي يستطيع التفكير فيما لم يحسه أو يشمه أو يتذوقه أو يسمعه أو يسمع عنه أبدًا أو يره أو يعيشه أو يقرأ عنه أو يصل إلى علمه بأي طريقة من الطرق منذ تفتحت مداركه الحسية؟ لا أعتقد أن ثمة من يستطيع تأكيد معرفة العدم أبدًا. وهذا هو معنى قول بارمنيدس اليوناني: (الوجود موجود والعدم غير موجود).
إننا جميعًا تقريبًا نعرف الله وملائكته ورسله وعوالمه الأخروية الغيبية، وما فيها من كائنات جميلة ورهيبة ما بين الجنة والنار والبعث والنشور، كما نعرف الجن والعفاريت والشياطين والأبالسة، وحكايات الكائنات الطيبة والمخيفة التي سمعناها في طفولتنا من مصادر شتى: (أجدادنا وجداتنا، أمهاتنا وآباءنا، أعمامنا وأخوالنا، وجيراننا ومجتمعاتنا ومساجدنا ومدارسنا وجامعاتنا ونظمنا السياسية ودولنا إن وجدت طبعًا، وكل شيء مررنا به في حياتنا وأحاط بنا منذ كنا أجنّة في أرحام أمهاتنا وبعد صرختنا الأولى، ونشأتنا عبر مراحل نمونا المتعاقبة من لحظة الإخصاب الأول حتى مماتنا).
تلك هي الحقيقة التي أشرت إليها؛ هناك بيئتان للإنسان: بيئة قبل الولادة، وأخرى بعد الولادة. البيئة الأولى هي رحم الأم، ففي الرحم تنغرس البويضة المخصبة وتبدأ بذلك مرحلة الإنسان الأولى، ويمثل الرحم بيئة الجنين المثالية، فالجنين النامي يُحاط بأغشية تحوي فيما بينها سائلًا يحميه من الصدمات.
وبيئة خارجية منذ صرخة المولود الأولى في عالم ما تحت فلك القمر؛ عالم الحس والحواس والفعل والانفعال، عالم الشمس والقمر والليل والنهار والبحار والجبال والأنهار والنجوم، وكل شيء يوجد على كوكب الأرض. تلك هي البيئة التي يتأثر بها كل كائن حي بلا استثناء، والإنسان أحدها. نقصد بالتأثير هنا المعنى الحياتي الطبيعي الذي لا تكون الحياة إلا به، خارج أي معنى قيمي أو أخلاقي. فربما يكون التأثير إيجابيًا أو سلبيًا؛ لا يهمني ذلك لغرض هذا المنشور. المهم أننا نتأثر بكل شيء مرّ في حياتنا، حتى في الأحلام ذاتها. وكل فرد إنساني لديه تجاربه الخاصة جدًا في ذلك.
بالنسبة لي ما زلت أتذكر كلمات سمعتها في طفولتي المبكرة ولها وظيفة التخويف من الظلام والليل والجن والساحرات.
والتاريخ هو العلم الذي يدرس العلاقة بين الأموات والأحياء، إذ تكتسب العلاقة بين الحياة والموت طبيعة مفارقة، فلولا الموت لما كان للحياة قيمة ومعنى، ولولا الحياة لما كان للموت قيمة ومعنى. فكيف يمكن أن تكون الأرض لو أن كل الكائنات الحية التي وُلِدت فيها وعاشت ظلت حيّة إلى الأبد ولم تمت؟ فكم هي الكائنات التي وُلِدت ونمت وعاشت وماتت على هذه الأرض ولم يعرف عنها أحد؟ من المؤكد أن الحياة بدون موت ستختنق مع الدفعة الأولى. فمن بين ثمانية ملايين نوع كائن حي وُلِد وعاش على هذه الأرض لم يتمكن الإنسان من اكتشاف غير مليون واحد فقط من الكائنات الحية التي انقرض معظمها، وتطور بعضها بحسب قانون البقاء للأصلح. من المؤكد أن الكائنات التي وُلِدت وماتت في هذه الدنيا أكثر بما لا يمكن تخيّله من الكائنات الحية في كل لحظة زمنية عابرة، فالموت هو الحقيقة الوحيدة المؤكدة في هذا الكون. إذ إن كل ما نعرفه يمكن أن يكون نسبيًا أو قابلاً للتغيير، إلا أن الموت يظل الحقيقة المطلقة، والتاريخ هو كل ما يبقى من ذاكرة الحياة.
فكيف عاش الناس الذين كانوا أحياءً ذات يوم؟ وكيف دبروا معاشهم؟ وما الأدوات التي كانوا يستخدمونها؟ وما شكل علاقاتهم الاجتماعية؟ إذ تقوم وتتشكل الجماعات والمجتمعات البشرية وتنمو وتستمر وتستقر وتزدهر في سياق اجتماعي تاريخي ثقافي علائقي تفاعلي يتكون من أربعة أنساق أساسية: (فاعل، فعل، علاقة، بنية)، فضلًا عن المكان والزمان بوصفهما إطارين قبليين بحسب كانط. تلك العناصر الأربعة وما ينجم عنها من مظاهر وظواهر وأشكال ورموز وقيم وتمثلات يُعاد صياغتها وبناؤها باستمرار في خضم عملية ممارسة الفاعلين الاجتماعيين لحياتهم المتعينة ماديًا ومعنويًا واقعيًا وافتراضيًا بمختلف صيغ وصور وأنماط تمظهراتها العلائقية: بين أنا – أنت، ذات – آخر، نحن – هم… وغير ذلك من أشكال العلاقات الاجتماعية المتغيرة باستمرار والتي لا تدوم على حال من الأحوال، وتجلياتها المختلفة، والتي بدونها يصعب الحديث عن الظاهرة الاجتماعية بوصفها ظاهرة قابلة للرؤية والدراسة والفهم.
والإنسان يشترك مع غيره من الناس في كثير من الأفعال، ويشترك معهم في كل شيء ويختلف عنهم في كثير من الأشياء. الحالة الأولى هي موضوع العلوم الاجتماعية والثقافية، والحالة الثانية هي موضوع علم الأحياء والعلوم المتاخمة، والحالة الثالثة هي موضوع علم النفس والعلوم النفسية. وكل فعل يتضمن فاعلين اجتماعيين، ويسمى الفعل اجتماعيًا حينما يحدث بين فاعلين أو أكثر، وهي: ميكروسوسيولوجية وماكروسوسيولوجية صغيرة وكبيرة. وكل فعل اجتماعي يتضمن علاقة اجتماعية، وحينما تتكرر تلك العلاقة تتشكل في بنية أو إطار أو مؤسسية. وحينما تزاوج آدم وحواء لأول مرة تكوّنت الأسرة النووية، وبتكرار التزاوج بين الفاعلين والفاعلات الاجتماعيات عبر آلاف السنين واستمرارها تكوّنت البنى الاجتماعية: بنية الأسرة، والقرابة، والعشيرة، والقبيلة، والقومية، والأمة، والإنسانية الأممية اليوم. والتعليم فعل تحوّل إلى علاقة بين الطالب والمعلم، وبتكرار تلك العلاقة تحولت إلى مؤسسة: الروضة والمدرسة والجامعة وكل مؤسسات التعليم والتربية التي لا يمكن لها أن تستمر وتدوم إلا باستمرار الفاعلين والعلاقة. والدين مؤسسة تكونت عبر فعل العبادة بكل أشكالها وأنماطها. خذ أي ظاهرة اجتماعية وانظر إليها من زاوية نظر منهجية تكاملية ستجدها لا تخرج عن ذلك السياق العام.
وبما أن المجتمع حالة متغيرة ومتحولة من حال إلى حال ولا يدوم في نقطة متجمدة، فقد ميّز علماء الاجتماع، وأولهم أوغست كونت، بين حالتين للظاهرة الاجتماعية: الحالة الديناميكية الحركية، والحالة الاستاتيكية الثابتة نسبيًا. فلا وجود لفعل اجتماعي بدون فاعل اجتماعي، ولا وجود لعلاقة اجتماعية بدون تفاعل بين الفاعلين الاجتماعيين، وهذا التفاعل الاجتماعي والعلاقة التي يقيمها عبر التكرار المستمر تشكل بنية مؤسسية شبه ثابتة في سياق التفاعلية الرمزية. فالتزاوج بين ذكور البشر وإناثهم ينجب بنية القرابة التي هي العائلة، وعبر الاستمرار الدائم لهذه العلاقة تدوم البنية، وهكذا سائر المؤسسات الاجتماعية؛ فالمدرسة علاقة بين المعلم والمتعلم، والجامعة علاقة بين الطالب والأستاذ، فإذا كف التلاميذ عن الذهاب إلى المدرسة انتهت المؤسسة. وإذا كف الناس عن التزاوج الشرعي انتهت الأسرة، وإذا كف الناس عن التقاضي في المحكمة انتهت مؤسسة العدالة، وإذا كف الناس عن الرقص والغناء والفرح انتهت المؤسسات الفنية، وإذا كف الناس عن الالتزام بالدستور والقانون انتهت المؤسسة السياسية، وإذا كف الناس عن اتباع قواعد المرور انتهت المدينة والنظام المدني.
وتلك هي خلاصة نظرية التفاعلية الرمزية (فاعل، فعل، علاقة، بنية). غير أن التاريخ الجديد ينظر إلى هذا المجتمع من زاوية أشمل وأعمق، وقد تبلورت خبرة الإنسان في التاريخ ومحاولة فهمه وتفسيره في جملة من المنظورات الفكرية نشير إلى أهمها: فقد يبدأ التاريخ أسطوريًا حين ينسب الإنسان نشأته وقضاياه إلى قوى غيبية، ثم يتجه نحو الوصفية اليونانية حيث تبرز الرغبة في تسجيل الوقائع بوصفها أحداثًا مرئية تخضع للعقل والمشاهدة. وبعد ذلك تتم هيمنة اللاهوت في العصور الوسيطة، فيغدو التاريخ مسرحًا للتجليات الإلهية وإثباتًا لعناية السماء. ومع عصر النهضة ينشأ الإنسانويّ الذي يعيد الإنسان إلى مركز السردية التاريخية، قبل أن يأتي عصر التنوير ليفرض سلطان العقل بوصفه معيارًا لتفسير حركة التاريخ وفق قوانين مدروسة.
ثم يظهر التيار الرومنطيقي في القرن الثامن عشر كصرخة ضد تبريد التاريخ بالعقلانية الجافة، معلنًا أن العاطفة والخيال جزء من فهم الإنسان لذاته وزمنه. وفي القرن التاسع عشر يتشكل النموذج الوضعي مع أوغست كونت وليوبولد فون رانكه، حيث تصبح المعرفة التاريخية بحثًا عن الوقائع الصلبة والمصادر الموثقة، كأن الحقيقة تُختزل في الأرشيف وحده. لكن التاريخ لا يلبث أن يستعيد ذاته في صورة التاريخانية التي تدعو إلى فهم الماضي في سياقه، وتؤكد نسبية الزمن والمعنى في أعمال ماكس فيبر، بنديتو كروتشه، هنري مارو وغيرهم.
وفي أواخر القرن التاسع عشر ظهرت مدرسة النقد التاريخي على يدي شارل فيكتور لانجلوا وشارل سينوبوس، وأسّسا مدرسة النقد التاريخي — «المدخل إلى الدراسات التاريخية» بحسب ترجمة عبدالرحمن بدوي. ثم تأتي المادية التاريخية الماركسية لتعلن أن البنية الاقتصادية هي محرّك التاريخ، وأن صراع الطبقات هو مفتاح التحولات الكبرى. وفي القرن العشرين تتطور البنيوية لتدرس التاريخ كبنية لغوية وثقافية؛ مع ليفي-شتراوس، فوكو، رولان بارت، لاكان، حيث تصبح القوة والمعرفة واللغة عناصر مكوِّنة للزمن التاريخي ذاته.
وفي المقابل يشق تيار مدرسة الحوليات الفرنسية طريقًا جديدًا بقيادة مارك بلوخ ولوسيان فيفر ثم فرناند بروديل، ليحوّل التاريخ من سرد للملوك والحروب إلى دراسة البنيات الاقتصادية والاجتماعية والذهنيات العميقة، فيصبح التاريخ علمًا للإنسان الكلي عبر الأزمنة الطويلة. وتُعرف هذه المقاربة بـ«التاريخ الجديد».
أما اليوم، فنحن نقف على أعتاب براديغم معرفي جديد تشكّله الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، حيث لم يعد التاريخ مجرد سرد أو تحليل للوثيقة، بل صار شبكة من البيانات الضخمة، تُقرأ بالخوارزميات والتعلم العميق، ويعاد إنتاجها على ضوء تفاعل الإنسان مع الآلة. لقد أصبح المؤرخ يجاور عالم البيانات، وأضحت الذاكرة الإنسانية رقمية، قابلة للدمج والحذف والتحليل اللحظي.
وهنا يطرح السؤال الفلسفي الحاد: هل نحن أمام ميلاد مدرسة تاريخية جديدة؟ مدرسة التاريخ الخوارزمي، حيث يصبح ماضي الإنسان قابلًا للحوسبة؟ أم أن الذكاء الاصطناعي سيحوّل التاريخ إلى محاكاة تحجب معنى التجربة الإنسانية نفسها؟
والتاريخ الجديد هو أنضج ثمار العلاقة التكاملية بين العلوم الطبيعية والإنسانية والاجتماعية، وأهمها الفلسفة أمّ العلوم، والتاريخ أبوها. فالفلسفة بلا تاريخ خواء، لأنها تتحول إلى فضاء بلا جاذبية؛ أفكار معلّقة لا تعرف من أين جاءت ولا إلى أين تسير. إن الفلسفة التي لا تتغذى من التجارب البشرية ليست سوى هندسة للعقل على الورق؛ نظريات تستولد نفسها في غرف مغلقة لا يصلها صخب الحياة ولا جراح الإنسان. إن السؤال الفلسفي يفقد حدّته حين لا يعرف تاريخ الألم الذي وُلد منه، ولا تاريخ الأمل الذي يريد بلوغه.
والتاريخ بلا فلسفة عماء، لأنه يتحول إلى وقائع وأحداث بلا معنى؛ أشبه بمرآة مهشمة تعكس صورًا متناثرة بلا منطق؛ وقائع تتوالى دون أن تصوغ حقيقة، وانتصارات وانكسارات تتراكم دون أن تنتج معنى. الفلسفة هنا هي النور الذي يرى ما وراء الوقائع: تربط بين الأسباب والغايات، وتستخرج القانون من الفوضى، والمعنى من الركام.
ما هو التاريخ؟ وما هي قواه الفاعلة؟ وكيف ندرسه ونفهمه؟ منظور جديد؟
إن مستقبل التاريخ ومعناه لن يُحسم بالخوارزمية وحدها، ولا بإرادة المؤرخ وحده، بل بالتوتر الخلّاق بينهما. فكما ولّد التاريخ نفسه عبر حواره الدائم مع الفلسفة، سيظل بحاجة إلى “أمّه” كي تمنحه القدرة على النفاذ إلى ما وراء البيانات، وتعيد إليه وظيفة لم يفقدها أبدًا: حماية المعنى الإنساني في زمن تتكاثر فيه المحاكاة أكثر مما تتكاثر الحقيقة.
ثم يأتي التنوير ليجعل من العقل معيارًا لتفسير حركة العالم. ومع الرومنطيقية ينهض صوت يذكّر بأن الإنسان ليس عقلًا فقط، بل كائن يعيش بالخيال والعاطفة والمعنى والذاكرة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news