يتعرَّض السودان – كشعب وكيان – للدمار. قطبا الكارثة الإسلاميون: جماعة الجبهة القومية الإسلامية: جناح الترابي، والبشير: المؤتمر الشعبي، والمؤتمر الوطني. والطرف الثاني: «الجنجويد»؛ التدخل السريع حالياً.
يتقاتل الطرفان ويتشاركان في حرب إبادة، وتدمير الكيان السوداني، ونهب ثرواته، والعودة به إلى مكوناته الأولى.
في العام 2003 شكّل الرئيس عمر البشير بعد انشقاقه عن زعيمه حسن الترابي مليشيات الجنجويد؛ لمواجهة الانتفاضة الشعبية في «دارفور» لهدفين أساسيين:
الأول: قمع «انتفاضة دارفور».
والثاني: العمل كقوة احتياط؛ لمواجهة أي تحرّك في الجيش.
في العاشر من إبريل من 2019 تمرّد البرهان وحميدتي على سيدهما البشير بعد أن أمرهما بقتل ثلث المحتجين. فهو جائز حسب فتوى المالكية، وهي فتوى في الفقه الإسلامي تُعرف بـ«التمترس». وقد استند إليها عبد المجيد الزنداني وعبد الوهاب الديلمي في الحرب ضد الجنوب. وهي تعني احتماء كفار بمسلمين؛ فيجوز قتل الجميع!
منذ البدء، وتحديداً في العام 2013، شكّل البشير «مليشيا الجنجويد» كعصابة خارج النظام والقانون، وكإثنية قومية تواجه قوى إفريقية مُبعدة عن المشاركة ولها مطالبها. وعبر الصراع تقوّى دور «الجنجويد»؛ لتصبح ذراعاً للحكم في مواجهة الانتفاضة، والجيش، والخصوم السياسيين.
دارفور مركز المدنية والتحضر والحكم في السودان، وهي بوابة نشر العروبة والإسلام في إفريقيا، لكن الحكم والأحزاب السودانية؛ وبالأخص الجبهة القومية الإسلامية – حولوها إلى بؤرة للتوتر، ومركز للصراع والحرب ضد جنوب السودان.
الصراعات الإفريقية الكثيرة، والصراع الليبي التشادي، والليبي-الليبي، وصراع الشمال والجنوب، وحتى حرب الإمارات والسعودية ضد اليمن، كلها كانت سوقاً رائجاً لمرتزقة «الجنجويد»، راكموا فيها الأموال، وكدّسوا السلاح، واكتسبوا خبرات حربية، وأصبحوا قوة منافسة للجيش.
الجيش السوداني المُنهك بالحروب ضد الجنوب، ومواجهاته التي دفعه إليها البشير مع الأقليات، وفي مواجهة الانتفاضات والانقلابات، تم تفخيخه من قبله بالإسلاميين، ولم يكن بعيداً عن صراعات الترابي والبشير.
توافق البرهان وحميدتي على اقتسام تركّة البشير، واستطاعا التنسيق مع بعض قادة الانتفاضة من «نداء الحرية» (المجلس المركزي).
كلاهما انقلب على حكومة حمدوك، ثم انقلبا على بعضهما. لكن المأزق انشقاق قوى الانتفاضة مجدداً، وانضمام عبد العزيز الحلو – زعيم «الجبهة الشعبية»؛ قطاع الشمال، و«حزب الأمة»، و«جماعة حمدوك» (المجلس المركزي) – إلى حكومة «الجنجويد».
من الواضح أن تصدّع الأحزاب، والقوى المدنية نقطة ضعف الانتفاضات الشعبية منذ الاستقلال. وما يصم الجنجويد أنها تأسست خارج مؤسسات الدولة، وخاضت حروبها بالوكالة، واحترفت حروب الاسترزاق في السودان وليبيا وتشاد واليمن، واقترفت جرائم الحرب وضد الإنسانية، وحرب الإبادة في دارفور منذ العام 2003، فضلاً عن ارتكابها جرائم الاغتصاب وبشكل علني.
بدأت مليشيا الجنجويد ذراعاً أمنية، وتوسّعت وتغلغلت في مؤسسات الدولة وأجهزتها المختلفة؛ وصولاً إلى تشكيل حكومة موازية. والخطيئة أنها تريد تشكيل الدولة السودانية في بلد «شبه قارة» على قياس قبيلة صغيرة ومليشيا متمردة.
المأساة أن البشير اختزل الدولة في شخصه، ويريد «الجنجويد» اختزال السودان الكبير بحجمه، وموارده الطبيعية، وتنوعه البشري في مليشياته ذات الجذر العشائري الضيق.
عجزت القوى السياسية المختلفة، والعسكر، والأحزاب الطائفية – كما يسميها المفكر الإسلامي الشهيد محمود طه – عن اختزال السودان – البلد شبه القارة – في منطقة صغيرة؛ فمن المستحيل اختزال هذا البلد العظيم في قبيلة أو عشيرة أو حتى إمارة.
اتخذ الصراع في دارفور منذ العام 2003، وفي بداية الانتفاضة السودانية طابعاً إثنياً. فالسكان المنتمون إلى قبائل إفريقية: «الفور»، و«الزعاوة»، و«المساليت» كانوا على رأس الثورة المطالبة بالتغيير والداعية إلى المشاركة في بناء الدولة السودانية الحديثة؛ فدفع نظام البشير بالجنجويد الآتين من قبائل عربية: «الرزيقات» و«الإبالة»؛ فأضفى على الصراع بعداً عربياً-إفريقياً-إقليمياً، وغطّى الصراع الإثني على مطالب الشعب السوداني، وعمى على طبيعة وحقيقة الصراع؛ على الموارد، والأرض، والماء، والرعي في بلد أضرّ به الجوع والقحط.
انخرط الجنجويد – مدعومين بالجيش، ومزوّدين بكل الإمكانات العسكرية في حرب تطهير عرقية وحرب إبادة – أحرقت أكثر من ثلاثين ألف قرية، وقتلت أكثر من ثلاثمئة ألف مدني، وشرّدت أكثر من مليوني ونصف داخل السودان وخارجه حسب تقديرات الأمم المتحدة.
اشترك كل من حميدتي والبرهان في حرب الإبادة في دارفور، وقمع الانتفاضة. وبتحالفهما واشتراكهما في الإطاحة بالبشير قوّى موقفهما بفض الاعتصام أمام المجلس العسكري، وارتكاب جرائم قتل أكثر من مئة وعشرين معتصماً ومعتصمة عام 2019.
تحالف حميدتي والبرهان وتقاتلا، وهما في تحالفهما وتقاتلهما كانا ضدّ الشعب السوداني. وكلاهما ربط مصيره بالحرب واستمرارها. والاثنان مطلوبان للعدالة الشعبية والدولية.
الحرب هي وحدها تتيح لهما الإفلات من العقاب، وهما لا يستطيعان التسلط، واستمرار التسيّد ونهب ثروات الشعب السوداني، إلا باستمرار الحرب التي وصل مشرّدوها إلى اثني عشر مليوناً في الداخل والخارج.
أفلَت «الجنجويد» من العقاب بسبب حماية نظام البشير، وتوفير الغطاء الأمني والسياسي له، وإغداق المكافآت على قادته بالمناصب، والترقيات، والأموال؛ بالرغم من إدانة الجنائية الدولية، واعتراف بعض قادة الجنجويد بارتكاب الجرائم بعد إدانتها بالحكم الدولي.
عندما اجتاحت قوات التدخل السريع مدينة «الفاشر»؛ عاصمة شمال دارفور بعد حصار عامين، قامت بارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية وحرب إبادة تؤرق الضمير الإنساني. كأن الجنجويد تريد أن تقنع العالم بأنها لا تقل توحشاً ونازية عن الصهاينة في غزة.
قامت الجنجويد بإعدام أكثر من ألفي مدني فيهم أطفال ونساء وعجزة، بالإضافة إلى قتل عشرات الجرحى والمرضى في المستشفى السعودي. وقد وثّقت الأقمار الصناعية، وبعثة تحقيق الـ BBC جرائم رهيبة لها: تشريد أكثر من ثمانين ألفاً، وجرائم اغتصاب جماعية وعَلنية، وتباهي بإعدام المدنيين الأبرياء؛ ولا يزال حتى الآن الآلاف محاصرين في الفاشر.
ما يجري في السودان ليس معزولاً عمّا يجري في المنطقة العربية كلها من تفكيك وتمزيق ونهب ثروات، والعودة بالمنطقة إلى ما قبل الوطنية والدولة؛ بل إن السودان أكثر إغراءً وقابلية من قبل القوى الإقليمية والاستعمارية وأطراف الحرب؛ سواء من ناحية مساحته، أو تركيبته المجتمعية الفسيفسائية، وثرواته الهائلة، وموارده الكبيرة، وإنسانه؛ وهو الثروة الأعظم؛ وأكثر عُرضة للتفكيك والتمزيق.
احتمالات وقف الحرب في الوقت الراهن مستبعدة. فالقوى المتحاربة: الجيش المفخخ بالإسلاميين، والجنجويد لا مصلحة لهما في وقف الحرب. وكيف للحرب أن تتوقف وهم صُنّاعها، وفي نهايتها نهايتهما؟
ثم إن الأمر لم يعد بأيديهم، وإنما بأيدي «الرباعية»؛ ولا مصلحة لبعض أعضائها في انتهاء الحرب؛ لتورّطهم في الصراع، ونهب ثروات السودان.
ولأمريكا – قائدة الرباعية، وللصهيونية مصلحة في استمرار حرب الإبادة؛ لتغطيتها – بمستوى معيّن – على ما يجري في غزة؛ وهو ما يتيح لكل من «ترامب» و«نتنياهو» تنفيذ مخططهما: «صفقة القرن»، ومنع وصول المواد الغذائية والأساسية عن المدنيين؛ وهو ما يفعله الجيش الإسرائيلي الآن في غزة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news