هل يمكن للعدالة أن تتخذ لونًا سياسيًا؟
وهل لا تزال المحاكم في صنعاء ساحات قانونية خالصة، أم تحوّلت إلى أدوات ضمن مشروع أوسع لإعادة تشكيل مؤسسات الدولة؟
تتجدد هذه التساؤلات مع صدور قرار جديد من هيئة التفتيش القضائي التابعة لمجلس القضاء الأعلى في صنعاء، يقضي بتوزيع خريجين من دورات فكرية مرتبطة بجماعة الحوثي داخل المحاكم، تمهيدًا لتعيينهم في السلك القضائي.
قرارٌ أثار نقاشًا واسعًا بين قضاة ومحامين وحقوقيين، بين من يراه إصلاحًا إداريًا لتغطية النقص في الكادر، ومن يعتبره خطوة في مسار “تأطير العدالة” داخل رؤية فكرية مغلقة.
خطوة ضمن مشروع متكامل
تشير وثائق رسمية إلى أن القرار شمل أكثر من 80 خريجًا من ما يُعرف بـ"المنظومة العدلية"، وهي دورات تأهيلية يشرف عليها قادة من الجماعة. وتستند هذه الدورات إلى خلفية فكرية محددة تعتبر القضاء جزءًا من منظومة الولاء السياسي.
ويأتي القرار بعد تعديلات سابقة على قانون السلطة القضائية أقرها مجلس النواب الخاضع للحوثيين، أتاحت تعيين كوادر غير قانونية دون المرور بالمعهد العالي للقضاء، المؤسسة الرسمية التي كانت تُخرّج القضاة على أسس مهنية محايدة.
ويرى مراقبون أن الخطوة تمثل تتويجًا لخطة متدرجة بدأت منذ أعوام لإحكام السيطرة على القضاء، شملت إعادة تشكيل مجلس القضاء الأعلى وتعيين شخصيات موالية في النيابة العامة والمحكمة العليا.
تفكيك القضاء من الداخل
منذ سيطرة الحوثيين على صنعاء عام 2014، مضت عملية إعادة تشكيل الجهاز القضائي بوتيرة متصاعدة. في البداية، اقتصر التأثير على المحاكم الجزائية التي استخدمت لمحاكمة خصوم الجماعة، ثم توسع ليشمل المجلس الأعلى للقضاء وهيئة التفتيش القضائي.
ومع إنشاء ما يسمى "المنظومة العدلية" عام 2020، تم تأسيس مسار موازٍ لتأهيل القضاة على أسس فكرية تركز على الولاء التنظيمي بدلاً من الكفاءة القانونية.
يقول أحد القضاة المنقولين إلى مناطق الحكومة الشرعية إن ما يحدث "ليس إصلاحًا قضائيًا، بل عملية إحلال ممنهجة تستبدل القانون بمشروع سياسي موجه". وأضاف أن "الانتماء الفكري أصبح شرطًا ضمنيًا للتعيين، بينما تُقصى الكفاءات التي لا تلتزم بخط الجماعة".
ردود فعل رسمية
اعتبرت الحكومة اليمنية الشرعية القرار انتهاكًا واضحًا لاستقلال القضاء.
وقال فيصل المجيدي، وكيل وزارة العدل، إن "القضاء في مناطق الحوثيين لم يعد قضاءً بالمعنى المهني، بل جهازًا يُدار برؤية سياسية تستخدمه الجماعة لتصفية خصومها".
وأضاف أن الخطوة الأخيرة "تأتي امتدادًا لعملية إعادة هيكلة شاملة تستهدف تحويل العدالة إلى أداة ضمن منظومة الولاء، بدءًا من مجلس القضاء الأعلى وصولًا إلى المحاكم الميدانية".
المنظومة العدلية: سلطة موازية
بحسب مصادر قضائية في صنعاء، تتوزع السيطرة على مؤسسات العدالة بين ثلاثة مراكز نفوذ داخل الجماعة:
عبدالملك الحوثي، المشرف الأعلى الذي يتحكم بعمل المحكمة الجزائية المتخصصة.
محمد علي الحوثي، المسؤول عن "المنظومة العدلية" والمشرف على تعيين القضاة الجدد.
عبدالكريم الحوثي، الذي يدير "الشرطة القضائية" المنشأة عام 2021 لتتولى متابعة القضاة وتنفيذ أحكام الجماعة.
هذا التوزيع جعل من الجهاز القضائي بنية موازية تُدار من خارج القنوات الرسمية، ما أفقد المحاكم استقلالها المؤسسي وأدخلها في منظومة تحكمها الولاءات لا القوانين.
موقف المنظمات الحقوقية
أدان المركز الأمريكي للعدالة (ACJ) القرار، مؤكدًا أنه "يمثل خطوة إضافية لتقويض الحياد القضائي وتحويل المحاكم إلى أدوات تنفيذ لمشروع أيديولوجي".
وأشار المركز في بيانه إلى أن "إحلال عشرات الخريجين من الدورات الفكرية بدلاً من القضاة المتخصصين يُعد انتهاكًا صريحًا للمبادئ الأساسية للأمم المتحدة بشأن استقلال القضاء".
وأوضح أن هذه الممارسات "لا تعكس أخطاء إدارية فحسب، بل تشكّل عملية إعادة هندسة شاملة لبنية القضاء في مناطق سيطرة الحوثيين، بما يضمن خضوعها التام للتوجيه السياسي للجماعة".
وطالب المركز المجتمع الدولي بإدراج ملف القضاء اليمني ضمن تقارير الانتهاكات الجسيمة لاستقلال المؤسسات في مناطق النزاع.
القراءة القانونية
ينص قانون السلطة القضائية اليمني على أن التعيين في السلك القضائي يجب أن يتم حصريًا من خريجي المعهد العالي للقضاء بعد اجتيازهم تدريبًا قانونيًا معتمدًا.
ويرى محامون يمنيون أن تجاوز هذا الشرط يُعد خرقًا دستوريًا، خاصة وأن المادة (149) من الدستور تضمن استقلال القضاء وتحظر أي تدخل في شؤونه.
وبحسب خبراء قانونيين، فإن ما يجري في صنعاء يؤسس لوجود نظامين قضائيين متوازيين:
أحدهما رسمي يعمل وفق القانون والدستور في مناطق الحكومة الشرعية،
وآخر سياسي/فكري في مناطق الحوثيين، يخضع لتوجيهات التنظيم لا لسلطة القانون.
انعكاسات على المجتمع
يحذّر حقوقيون من أن انهيار الثقة بالقضاء في مناطق الحوثيين يدفع المواطنين إلى اللجوء للتحكيم القبلي أو الحلول العرفية، ما يعيد البلاد إلى ما قبل مؤسسات الدولة.
ويقول أحد المحامين في صنعاء إن "الناس باتوا ينظرون إلى المحاكم كمؤسسات ولاء لا كمحاكم عدل، وهو تحول خطير في وعي المجتمع تجاه مفهوم العدالة".
ويرى آخرون أن إعادة بناء مؤسسة القضاء بعد انتهاء الحرب ستكون من أعقد ملفات الإصلاح، لأنها لا تتعلق فقط بتأهيل القضاة، بل بإعادة تعريف معنى العدالة نفسها.
خاتمة
تؤكد المعطيات أن جماعة الحوثي تمضي بخطوات محسوبة لإعادة صياغة القضاء وفق رؤيتها الخاصة، من تعديل القوانين إلى تعيين قضاة الولاء.
هذه التحولات لا تهدد بنية العدالة فحسب، بل تعيد تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس فكرية مغلقة.
وفي غياب أي تدخل دولي فاعل، يتجه القضاء في صنعاء نحو نموذج إداري جديد، يُحتكم فيه للانتماء قبل النص، وللولاء قبل القانون.
وهكذا، تبدو العدالة في مناطق الحوثيين جزءًا من مشروع سياسي يتحدث بلسان القانون، لكنه يُحاكم بمنطق السيطرة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news