شرعية الخنوع… حين يتحول العجز إلى خيانة وطن
قبل 23 دقيقة
لم يعد ضعف الشرعية اليمنية مجرد خللٍ في الأداء أو ارتباكٍ في المواقف، بل أصبح عارًا سياسيًا وجُرحًا مفتوحًا في جسد الوطن، يُنـزف منه معنى الكرامة كل يوم. فهذه السلطة التي كان يُفترض أن تمثل اليمن وتدافع عن سيادته، صارت اليوم رمزًا للفشل المزمن والعجز المقيم. حكومة فقدت القدرة على الغضب، واستمرأت الإهانة حتى غدا التجاهل الدولي لها أمرًا مألوفًا لا يثير دهشة ولا حتى أسفًا.
آخر فصول هذا الانحدار جاء على يد المبعوث الأممي إلى اليمن، هانس غروندبرغ، خلال زيارته الأخيرة إلى الرياض. فالرجل، في مشهدٍ دبلوماسي فاضح، التقى السفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر، والسفير الإماراتي لدى اليمن محمد الزعابي، إلى جانب سفراء الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن ، وعددٍ من أعضاء المجتمع الدبلوماسي الدولي. التقى الجميع، من الإقليميين إلى الدوليين، باستثناء الحكومة الشرعية، وكأنها لم تعد موجودة أصلًا في معادلة اليمن السياسية.
لم يكن هذا التجاهل صدفة أو خطأ بروتوكوليًا، بل رسالة محسوبة تقول بوضوح: "أنتم لم تعودوا طرفًا مؤثرًا في المشهد."
والأدهى أن المبعوث لم يفعل ذلك بدافع رغبة في إعادة هندسة المشهد، بل فقط لأنه يبحث عن مادة يقدّمها في إحاطته الشهرية إلى مجلس الأمن حتى لا يُقال إنه فشل في اليمن. لقاءات شكلية لـ"إسقاط الواجب"، في بلدٍ تُسقط فيه الدولة نفسها عن عمد.
غير أن الكارثة ليست في تصرّف المبعوث، بل في ردة فعل الشرعية التي لم تحدث أصلًا. لا بيان، لا احتجاج، لا حتى تلميح استياء. وكأنها تُقرّ ضمنيًا بأنها تستحق هذا التهميش. الشرعية اليوم تبدو كجسدٍ بلا أعصاب؛ تُهان فلا تغضب، تُستبعد فلا تحتج، وتُلغى من الحسابات دون أن يرفّ لها جفن. فأي شرعية هذه التي فقدت القدرة على الشعور بالمهانة الوطنية؟
غروندبرغ، الذي يُفترض أن يكون وسيطًا محايدًا، تصرّف كـ مندوبٍ متعاطفٍ مع الحوثيين، يتحدث عن "السلام الشامل" بلغةٍ تلمّع الميليشيا وتُهمّش الدولة. يروّج لرؤية تُسوّي بين الجلاد والضحية، بين من انقلب على الدولة ومن يفترض أنه يمثلها. ومع ذلك، لم تحرّك الحكومة الشرعية ساكنًا، بل اكتفت بصمتٍ مريبٍ أصبح عنوان وجودها الوحيد.
أما الحكومة التي تدير البلاد من غرفٍ مكيفة في العواصم، فقد انفصلت عن وطنها كما ينفصل الجسم الميت عن الحياة. لا تعرف شيئًا عن معاناة شعبها، ولا عن وجع الجبهات، ولا عن كرامة الدولة التي تُمتهن كل يوم. كل ما يشغلها أن تُصرف المخصصات في آخر الشهر، وأن تصدر بيانات باردة عن "التمسك بالمرجعيات الثلاث"، وكأنها ترفع صك غفران يغطي عجزها الأبدي.
لقد تحوّلت الشرعية إلى جثة سياسية تمشي على قدمين. بلا مشروع، بلا رؤية، بلا كرامة. تُستدعى لتجميل المشهد حين يريد المجتمع الدولي إضفاء غطاءٍ شكلي على مشاوراته، ثم تُعاد إلى الظلّ. القرار الحقيقي لم يعد في يدها؛ بل في يد المبعوث الأممي الذي تجاوزها دون أن يخشى رد فعل، وفي يد الحوثيين الذين يفرضون واقعهم على الأرض، وفي يد عواصم باتت تُقرر مصير اليمن بدلاً عنها.
إن صمت الشرعية أمام هذا التجاهل ليس برهان حكمة، بل علامة خنوعٍ وهوان. فمن يسكت عن إهانة نفسه، يدعو الآخرين لإهانته أكثر. ومن لا يدافع عن شرعيته، يُسقطها بيده. الشرعية التي تُهمل الرد على المبعوث بعدما تجاوزها، تُعلن عمليًا أنها لم تعد معنية بتمثيل اليمن، بل بالحفاظ على امتيازاتها ومقاعدها.
غروندبرغ لم يجرؤ على تجاوز الشرعية لأنه قويّ، بل لأنها سمحت له بذلك. سمحت له حين تنازلت عن استقلال قرارها، وحين قبلت أن تكون تابعًا بدل أن تكون شريكًا. هو لم يفعل سوى أن عبّر عن واقعٍ يعرفه الجميع: أن الحكومة الشرعية اليوم لا تملك من الشرعية سوى الاسم.
أيها المسؤولون الذين ترفعون شعار "استعادة الدولة"، بأي وجهٍ تتحدثون عنها وأنتم تركتم الخنادق وسكنتم الفنادق؟ كيف يُستعاد وطن بأيدٍ مرتعشة وعقولٍ تائهة وضمائر غارقة في الترف؟ اليمن لا يُستعاد من قاعات الفنادق، بل من خنادق الكرامة التي هجرتموها.
المجتمع الدولي لا يحترم الضعفاء، ومن يقبل أن يكون تابعًا لن يُحسب شريكًا أبدًا. الشرعية التي تنازلت عن الميدان وسلّمت المبادرة لخصومها، لا يحق لها أن تلوم إلا نفسها. فحين تتصرف كسلطة عاجزة، سيعاملها العالم على هذا الأساس. وهكذا حدث بالضبط: تم تهميشها لأنها همّشت نفسها.
إن أخطر ما في المشهد ليس تجاهل المبعوث الأممي فحسب، بل اعتياد الشرعية على أن تُتجاهل. وحين يفقد القادة الإحساس بالمهانة، فهذه ليست أزمة سياسية، بل انتحار وطني بطيء.
إذا كانت هذه هي "الشرعية"، فهي لم تعد تمثل اليمنيين، بل تمثل إخفاقها الفادح في أن تكون دولة. المبعوث الأممي لم يصنع واقعها البائس، بل كشفه للعالم. واليمنيون اليوم لا يغضبون من غروندبرغ، بل يشعرون بالعار من حكومتهم التي سمحت له أن يتجاوزها.
آن للشرعية أن تفهم أن صمتها لم يعد دبلوماسية، بل خيانة صريحة للوطن. فالوطن الذي تُترك قضيته في يد مبعوث متواطئ وحكومة عاجزة، هو وطن يُباع على مراحل.
وما لم تستفق هذه السلطة من غيبوبتها، فستستيقظ يومًا لتجد نفسها بلا أرض، بلا شعب، وبلا اسم.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news