خلصت دارسة تحليلية، نشرت الأربعاء 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، إلى أن العدالة الانتقالية شرطٌ وجودي للسلام في اليمن، داعية إلى استلهام التجربة التشيلية، التي ابتدأت في العام 1990، والتي تمثل نموذجاً ناجحاً لمسار عدالة متدرج وواقعي.
كما خلصت الدراسة، التي أصدرتها منظمة سام، بالشراكة مع رابطة أمهات المختطفين وبدعم من معهد دي تي، ضمن مشروع سبارك، إلى أن العدالة في اليمن ليست مسألة تقنية، بل قضية بنيوية تتعلق بطبيعة النظام السياسي وعلاقته بالمجتمع.
وأكدت أن أي مسار للعدالة الانتقالية، لا بد أن يبدأ بإصلاح جذري لمؤسسات القضاء وإعادة الاعتبار للذاكرة الوطنية باعتبارها أساس الثقة العامة، معتبرة تجاهل العدالة الانتقالية استمراراً لدوامة العنف وتكرار المأساة في البلاد.
الدراسة، التي جاءت بعنوان، "التجربة التشيلية للعدالة الانتقالية وآفاق الاستفادة منها في اليمن عبر دور المجتمع المدني"، للباحث عادل دشيلة، شددت على أن المجتمع المدني اليمني، يحمل اليوم مسؤولية تاريخية في قيادة هذا المسار، من خلال التوثيق والمناصرة وحفظ الذاكرة، بدعمٍ دوليٍّ منسق يحترم السيادة الوطنية.
وأشارت إلى أن استلهام التجربة التشيلية، يُظهر أن الشعوب قادرة على مواجهة ماضيها دون خوف، وأن الاعتراف بالألم هو الخطوة الأولى، نحو الشفاء الجماعي.
وأوضحت أن اليمن عاشت عقودًا من الصراعات والانقسامات السياسية والمناطقية، التي خلّفت وراءها تراكمًا من المظالم والانتهاكات غير المعالجة، مشيرة إلى أن جذور الأزمة، تمتد إلى ما قبل الوحدة، حين بدأت النزاعات المسلحة تتكرر دون أن تتبعها عمليات مساءلة أو إنصاف حقيقية.
ووفق الدراسة، مثّلت حرب 1994 ثم حروب صعدة بين 2004 و2010 مراحل مفصلية، رسّخت منطق القوة والغلبة بدل العدالة، وصولًا إلى الانهيار المؤسسي عام 2014 حين تفجّر الصراع الشامل وتعددت أطرافه المحلية والإقليمية.
وأكدت أن الانتهاكات في هذه الفترات تنوّعت بين القتل خارج القانون، والإخفاء القسري، والتعذيب، والعنف الجنسي، والتجنيد الإجباري للأطفال، والمصادرة القسرية للممتلكات، مشددة على أن المؤسسات القضائية والأمنية، فشلت في أداء وظائفها، إما بسبب التسييس أو الانقسام أو غياب الكفاءة.
وقال إن المحاولات السياسية السابقة، مثل قانون العدالة الانتقالية، ومسودة الحوار الوطني، بقيت حبيسة الأوراق ولم تتجسد في واقع مؤسسي، إذ لم تتوافر الإرادة السياسية لتنفيذها.
وبيّنت أن القوى المتنازعة غالبًا ما تعاطت مع العدالة، بوصفها تهديدًا لمصالحها، ما أدى إلى تعطيل كل جهد يرمي إلى إحقاق الحقوق أو إنصاف الضحايا.
عن التجربة التشيلية
طبقاً للدراسة، تمثل تجربة تشيلي بعد انتهاء الحكم العسكري لأوغستو بينوشيه (1973–1990)، أنموذجًا ناجحًا لمسار عدالةٍ متدرجٍ وواقعي، لافتة إلى أن الخطوة الأولى بدأت بتشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة (ريتيغ) التي قامت بتوثيق الانتهاكات، وتقديم أول اعتراف رسمي من الدولة بضحايا القمع.
وقالت إن "هذه اللجنة كانت نقطة التحول نحو بناء مصالحة قائمة على الحقيقة لا على التناسي، إذ سمحت بإرساء خطاب وطني جديد يعترف بالضحايا ويؤسس لشرعية أخلاقية للدولة الديمقراطية الوليدة".
وفي هذه التجربة، أوضحت الدراسة، أن المجتمع المدني لعب الدور المحوري فيها، إذ قادت الكنيسة الكاثوليكية ومنظمات مثل لجنة السلام ونيابة التضامن، جهودًا مكثفة لجمع الشهادات وتوثيق حالات التعذيب والإخفاء.
وأشارت إلى أن هذه الوثائق تحولت إلى أرشيف قانوني ضخم أسهم في دعم المحاكمات لاحقًا، مبينة أن هذا الجهد الأهلي، كان بمثابة الضمير الحي، الذي فرض على الدولة التعامل مع الحقيقة باعتبارها شرطًا للمستقبل لا عبئًا من الماضي.
وأفادت بأن جبر الضرر كان أحد أعمدة النجاح، حيث أُنشئ برنامج PRAIS لتقديم الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية والتعليمية للضحايا وأسرهم، بما أعاد إليهم الكرامة الإنسانية، وفي الوقت نفسه أقرت الدولة قوانين تعويض وتعهدت بالاعتراف الرسمي بالضحايا كمواطنين متضررين.
كما استطاعت تشيلي تحويل مواقع القمع إلى فضاءات للذاكرة الوطنية، مثل “فيلا غريمالدي” و“ملعب سانتياغو”، لتصبح رموزًا لتاريخٍ لا يُراد نسيانه بل يُراد تذكّره كي لا يتكرر.
إمكانية الاستفادة منها يمنياً
وعن إمكانية الاستفادة من تجربة تشيلي، قالت الدراسة، إنها لا تعني نقلها حرفيًا إلى اليمن، بل تكييفها بما يتناسب مع واقعٍ أكثر تعقيدًا، مشددة على أن المرحلة اليمنية تتطلب مسارًا متدرجًا، ولا مركزيًا يبدأ من المجتمع المدني وينطلق من القاعدة نحو القمة.
ودعت إلى ضرورة البدء بتأسيس منظومة وطنية موحدة للتوثيق والأرشفة، تنسق بين اللجنة الوطنية للتحقيق ومنظمات المجتمع المدني لجمع الأدلة والشهادات وحفظها في قواعد بيانات آمنة وفق معايير مهنية.
وأكدت بهذا الخصوص، أن التوثيق هو الخطوة الأولى في بناء سردية وطنية موثوقة، تعيد للضحايا صوتهم وتمنح العدالة أساسها المادي، مؤكدة كذلك، أهمية إنشاء برنامج وطني لجبر الضرر يتجاوز التعويض المالي، مستوحى من نموذج PRAIS التشيلي.
وشددت على ضرورة إطلاق مشروع وطني للذاكرة المجتمعية، يرصد مواقع الانتهاكات ويحوّلها إلى متاحف ومراكز تعليمية تسهم في تكوين وعيٍ جمعيٍّ يمنع تكرار المأساة. كما بيّنت أهمية إشراك النساء والشباب في قيادة هذا المسار، لأنهم الفئة الأكثر تضررًا من الحرب والأقدر على بناء رواية مستقبلية للسلام.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news