لقد أنقذت نفسك يا سليمان .. شذرات من سيرة أهم سلاطين بني عثمان
قبل 20 دقيقة
عندما أتيحت لي ظروف عديدة لزيارة بلدان أوروبا الشرقية، اندهشت من حجم الآثار والتراث الذي تركته الحقبة العثمانية في تلك البلدان. ففي بلغراد، عاصمة صربيا حاليًا ويوغسلافيا سابقًا، كان مرافقنا الرسمي يشير لنا إلى قلعة بلغراد الشامخة ومسجدها الكبير ليقول مبتسمًا: "هذه بقايا أمجاد أجدادكم المسلمين." أحياء بأكملها، وأسوار، ومساجد، وحمامات، ومباني إدارات، وفي كوسوفو، مدينة بريزرن الرائعة كلها عثمانية على الطراز الإسلامي، إلى حد أن أشهر مهندسي السلطنة، سنان المعمار، شيد فيها مسجدًا جميلاً، ومثله في تيرانا عاصمة ألبانيا، ومدن أوروبية عديدة مثل صوفيا وبودابست، عاصمة المجر، التي كانت من فتوحات هذا السلطان الفاتح، حيث تقابلك في كل زوايا العاصمة النوافير والجسور والحمامات التي لم تكن أوروبا تعرفها من قبل. وأضف إلى ذلك أنهم أول من أدخل القهوة إلى تلك البلدان. كما يُقال، آثارهم تدلنا على أخبارهم.
ذكرت لنا مصادر التاريخ أن السلطان العثماني سليمان القانوني، رحمه الله، يُعتبر من أهم وأتقى سلاطين الدولة العثمانية، وأنه لما بلغه خبر استيلاء النمل على جذوع الأشجار في قصر "طوب قابي"، استشار العلماء، ثم ذهب بقدمه إلى بيت المفتي شيخ الإسلام أبي السعود أفندي، ولما لم يجده كتب إليه أبياتًا يستفتيه فيها:
"إذا دب نمل على الشجر، فهل في قتله من ضرر؟"
فأجابه المفتي بأبيات تؤكد إقامة العدل حتى مع النمل:
"إذا نصب ميزان العدل، أخذ النمل حقه بلا وجل."
وكان دأبه – رحمه الله – ألا ينفذ أمرًا إلا بفتوى من أهل العلم.
وحين تُوفي أثناء سفره إلى فيينا، وُجد بجواره صندوق، فظن العلماء أنه مال، فلما فتحوه وجدوه مملوءًا بفتاوى العلماء التي استند إليها في حكمه، ليحتج بها يوم الحساب. فبكى المفتي أبو السعود قائلاً: "لقد أنقذت نفسك يا سليمان! فأي سماء تظلنا، وأي أرض تقلنا إن كنا مخطئين في فتاوينا!"
دام حكمه 47 عامًا، قاد خلالها 13 حملة عسكرية بنفسه، وفتح في عهده صربيا والمجر وجنوب أوكرانيا ورومانيا والقوقاز، ووصلت جيوشه إلى قلب النمسا. كما حُررت الجزائر وليبيا من الإسبان، والعراق من الصفويين، والبحرين واليمن وسواحل الخليج وخليج عدن من البرتغاليين.
وكان شاعرًا وخطاطًا بارعًا، كتب المصحف بيده ثماني مرات، وأتقن عدة لغات، ولُقب بـ "سلطان المثقفين ومثقف السلاطين".
ولما مات، دقت أجراس الكنائس في أوروبا فرحًا، وقال المؤرخ الألماني هالمر: "كان هذا السلطان أشد خطرًا علينا من صلاح الدين نفسه." ومما روي عنه أنه عندما أحس بدنو أجله أوصى عند موته أن تُخرج يديه من التابوت، لكي يرى الناس أنه حتى السلطان سليمان القانوني خرج من هذه الدنيا الفانية بيد فارغة!
هذه شذرات من سيرة أعظم وأهم سلطان عثماني، لعل فيها من الخبر ما يفيد، ومن العبر ما نستفيد.
* كاتب وأكاديمي من العراق
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news