تأتى الدعوة إلى مهرجان «أصيلة» هذا العام، وقد غيّب الموت مؤسسه وملهمه محمد بن عيسى، وزير الخارجية المغربى الأسبق. ولا يُذكر اسم أصيلة ـ تلك المدينة الصغيرة الموشّاة بجمال البحر وهدوء الريح ـ إلا ويُذكر معها مهرجانها الثقافى الأخّاذ، ويُستحضر وجه ابنها البار محمد بن عيسى؛ الرجل الذى وُلد بين جدرانها البيضاء، وارتوى من هوائها، ثم حمله القدر إلى القاهرة شابا ليدرس الصحافة، قبل أن تأخذه السياسة إلى أصقاع الأرض سفيرا ووزيرا، من دون أن تنتزع منه عشق الثقافة أو تشوّه شغفه ببناء جسور التواصل العربى والإنساني.
لقد كان تأسيس المهرجان فعلا أشبه بالمعجزة الثقافية: فكرة صغيرة وُلدت فى مدينة على أطراف المحيط الأطلسى، فإذا بها تتحول، عبر أكثر من أربعة عقود من المثابرة، إلى منارة مضيئة فى خريطة الثقافة العربية. تحولت «أصيلة» من منتدى عابر إلى مركز ثقافى وسياحى راسخ، يفتح أزقته البيضاء ذات الطابع المتوسطى لتكون لوحات فنية نابضة، ويقدّم نفسه كأكبر معرض مفتوح للفن على ضفاف الأطلسى، يضم أعمالا تشكيلية ومنحوتات وألوانا تتراقص بين جدران المدينة وتغنى الحواس ببهجة لا متناهية.
فى كل موسم، كانت «أصيلة» تُثبت أنها ليست بعيدة عن قلب الثقافة العربية، بل هى قلبها النابض. يتوافد إليها كبار المفكرين والكتّاب والفنانين من أصقاع الأرض، فيتحول منتجعها الهادئ إلى ورشة حوار متقدة، تتسع لقضايا الساعة وهواجس الأمة، ولتطل من على شرفاتها رؤى فكرية تنير عقول الزائرين وتشحذ طاقات الشباب العربى نحو الإبداع. رحل محمد بن عيسى جسدا، لكن روحه لا تزال تسكن حجارة المدينة، وتطل من جدارياتها، وتبقى بصمته محفورة فى ذاكرة العرب جميعا، كرمز للإصرار على الثقافة والحفاظ على روح الانتماء والوعى.
وإذا كانت «أصيلة» تُلهمنا بمهرجانها، فإن المغرب كلّه يُلهمنا بتحولاته الكبرى. فمن خلال سنوات المتابعة والاقتراب، أرى بوضوح كيف صنع هذا البلد لنفسه تجربة فريدة، قوامها الثقافة والعيش المشترك. يكفى أن نعلم أن المغرب يحتضن نحو سبعين مهرجانا ثقافيا وفنيا فى العام الواحد، وربما أكثر، فلا تكاد مدينة فيه تخلو من مهرجان للفنون أو السينما أو الأدب. وهو مشهد لا يعكس مجرد ترف فنى، بل يعكس رؤية عميقة جعلت من الثقافة جسرَ هوية وأداة انفتاح، وحافزا على الحوار والالتقاء بين الحضارات والثقافات المختلفة.
وهنا تقف تجربتان مغربيتان شاهدا على وعى عميق متجذّر:
اخبار التغيير برس
الأولى، تجربة العيش المشترك، حيث التنوع الإثنى والدينى والثقافى لا يبعث على الفرقة بل يُثمر قبولا واحتراما. وفى أزقة المدن وزوايا القرى ترى هذا التنوع يتجلى فى الابتسامات واختلاط اللغات المشتركة، وفى أصوات الأذان والأناشيد الشعبية، كلها تتناغم فى سيمفونية الحياة اليومية.
والثانية، تجربة اللامركزية، حيث توزعت التنمية على اثنتى عشرة جهة بمجالس إداراتها المنتخبة، لتخرج البلاد من أسر المركزية إلى فضاء التنافس البنّاء، وتمكّن كل مدينة من تطوير بنيتها التحتية وثقافتها وفنونها وفق خصوصيتها وهويتها. وهكذا صار المغربى من طنجة إلى الكويرة ـ متمسكا بهويته الجامعة، فخورا بمدينته وقريته، معتزا بمغربه الكبير، ومفتخرا بما تحقق من توازن بين الانتماء المحلى والهوية الوطنية. بهذا النهج، لم يعد التنوع مصدر تشظ، بل أصبح طاقة نهوض وإبداع. صارت المدن تتباهى بما تقدمه من عمران وثقافة ومبادرات، حتى غدت مهرجاناتها علامات مضيئة على خريطة الحياة الثقافية. ولعل أجمل ما فى التجربة أن الثقافة لم تُختزل فى ديكور جانبى للسياسة، بل فرضت حضورها لتمنح السياسة معنى أكثر رحابة، وتجعلها شريكا فى صناعة مستقبل آمن ومستدام، ويُقدّر المواطنُ ثقافته وهويته.
وها أنا من على شرفة المغرب فى طنجة، حيث يلتقى الأطلسى بالمتوسط، وعلى مرمى حجر من أوروبا، وخطوات من إفريقيا، فى رحاب حكايات ابن بطوطة المدهش، وفى لقاء تتقاطع فيه الحوارات العربية فى خضم الندوات المتواصلة، وتطل الأسئلة كالموج لا تهدأ. هنا فى أقصى نقطة من الوطن العربى، تدرك أنك لست على الهامش، بل فى القلب تماما: فى قلب اللغة والفن، وفى قلب الانتماء العربى الذى لا ينطفئ شغفه ولا يخمد حماسه.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news