أعد القصة لـ”يمن ديلي نيوز” محمد الحميدي:
أسهمت طبيعة مدينة إبّ وريفها وجبالها ووديانها وتراثها في تشكيل خيال صانع الأفكار والمصمّم عبدالرحمن الحميدي منذ صغره؛ فقد كان يستلهم من هذه البيئة أفكارًا للتصوير والتصميم وصناعة الإبداع، كما يوضح هو نفسه.
بدأت رحلة الحميدي بالتصوير الفوتوغرافي انطلاقًا من سحر طبيعة إبّ الخلّابة التي ألهمت خياله؛ فكان يوثّق أوديتها وجبالها الخضراء، ولا سيّما في الصيف مع هطول الأمطار، ويلتقط صورًا ينشرها عبر منصّات التواصل الاجتماعي فتلقى تفاعلًا واسعًا.
يقول: لقد كانت طبيعة إبّ نقطة انطلاقي؛ سحر جمالها ألهم كاميرا جوّالي، وهو التفاعل الذي أوصله إلى قناةٍ عالمية؛ إذ تواصلت معه ناشيونال جيوغرافيك أبوظبي وطلبت صورًا لمدينة إبّ، فأرسل عددًا منها ونُشرت إحداها، ومن هنا شعر بأهمية ما يقدّمه.
يصف الحميدي نفسه بأنه “صانع أفكار قبل أن يكون مصمّمًا”، ويعد عبدالرحمن واحدًا من أبرز المواهب الشابة في مجال التصميم الجرافيكي باليمن.
ابن محافظة إب، البالغ من العمر 24 عاما، استطاع خلال فترة وجيزة أن يلفت الأنظار محليًا وعربيًا بفضل أعماله التي تمزج بين التراث اليمني والحداثة في قالب بصري معاصر.
لم يقتصر اهتمام عبدالرحمن على التصوير الفوتوغرافي، بل توسّع نحو التصميم الجرافيكي وابتكار أفكار مستوحاة من التراث اليمني والأثر الثقافي والمادي للبلاد.
يؤكد لـ”يمن ديلي نيوز” أن منصّات التواصل الاجتماعي كان لها أثر كبير في مسيرته الإبداعية؛ فالتفاعلات الإيجابية من الأصدقاء والمتابعين في مختلف المحافظات اليمنية والدول العربية كانت بمثابة حافزٍ له للابتكار وتطوير أعماله بشكلٍ مستمر.
أول تجربة
يتحدّث الحميدي عن أول تجربةٍ له في المزج بين التراث والفنّ المعاصر جاءت خلال سفره إلى صنعاء، حيث استلهم من “باب اليمن” تصميم محفظة، ثم ابتكر قلادةً مستوحاةً من حبّة البن في يوم البن اليمني؛ لتكون نقطة انطلاق لمسيرةٍ إبداعية تقوم على استدعاء رموز التراث اليمني وصياغتها بروحٍ حديثةٍ تحمل طابعًا ذا بُعدٍ قومي.
من صنعاء إلى سقطرى، ومن الحديدة إلى مأرب، تنقّلت أفكار وتصاميم عبدالرحمن مستوحاةً من مختلف المدن اليمنية: من محفظةٍ مستوحاةٍ من باب اليمن، إلى أسورةٍ وإضاءةٍ مستلهَمةٍ من شجرة دم الأخوين، ومن قلادةٍ مستوحاةٍ من زهرة الصحراء السقطرية، إلى قلادةٍ مستوحاةٍ من الفلّ التهامي، ومن حامل أقلامٍ مكتبيٍّ مستلهَمٍ من عرش بلقيس، إلى علبة مناديل مستلهَمةٍ من القمرية الصنعانية، ومبخرةٍ مستلهَمةٍ من دار الحجر. وهكذا يواصل تقديم التراث اليمني بروحه الخاصة وبأسلوبٍ معاصرٍ مبتكر.
بعد قومي
تصاميم عبدالرحمن تحمل طابعًا ذا بُعدٍ قومي يعتزّ بالتراث اليمني القديم؛ فهي لا تقتصر على كونها أعمالًا فنيةً فحسب، بل تمثّل رسالةً تعكس الانتماء والهوية الوطنية. ومن خلال دمج الرموز السبئية والحميرية والصنعانية والحضرمية، يسعى من خلاله إلى إبراز عمق الحضارة اليمنية التي شكّلت عبر التاريخ جزءًا مهمًا من الهوية العربية.
هذه النزعة القومية تظهر في أعماله دعوةً للتمسك بالجذور ومقاومة محاولات طمس التراث أو استبداله بهوياتٍ دخيلة.
ويقول الحميدي إن ما تمرّ به اليمن من حرب ومحاولاتٍ لطمس تراثها واستبداله بتراثٍ دخيلٍ على المجتمع يجعل من الضروري أن يلتزم جيل اليوم بالعودة إلى هذا التراث والتمسك به للحفاظ عليه.
تأثير الحرب
منذ بداية الحرب في سبتمبر/أيلول 2014، شهد التراث والآثار اليمنية تدهورًا غير مسبوق؛ حيث تعرّضت المواقع الأثرية للتدمير والنهب، وأصبحت عمليات تهريب القطع الأثرية جزءًا من المشهد اليومي.
وتشير التقارير إلى تورّط جماعة الحوثي، المدعومة من إيران، في هذه الانتهاكات من خلال استهداف المواقع التاريخية والمقابر الأثرية في محاولةٍ لطمس الهوية اليمنية.
وقد شكّل الحوثيون شبكات تهريبٍ منظّمةً لبيع الآثار عبر وسطاء في عدّة مدن يمنية، مرورًا بمنافذ غير رسمية أو عبر سواحل البحر الأحمر، وتم عرض العديد من القطع في مزاداتٍ دولية؛ أبرزها قطعةٌ تعود للقرن الأول قبل الميلاد عُرضت في برشلونة عام 2023.
وعلى الرغم من جهود بعض الجهات، بما في ذلك اجتماعات يمنية–أميركية لمكافحة التهريب، يبقى غياب الدعم الحكومي والموارد المالية أكبر تحدٍّ يهدّد حماية التراث اليمني من النهب والتخريب.
في هذا السياق، يُعدّ عمل المصمّمين مثل عبدالرحمن الحميدي خطوةً مهمّةً للحفاظ على الهوية اليمنية من خلال إعادة تقديم التراث بطريقته الخاصة. ويرى الحميدي أن التراث اليمني غنيٌّ لكنه مُهمَل، مشدّدًا على أن مهمّته تكمن في إحيائه بطريقةٍ تجذب الجيل الجديد.
يقول: “أستلهم من التراث الصنعاني والسبئي والحميري والحضرمي، وأعيد صياغته في قوالب حديثة تُذكّر الناس بتاريخهم”.
وعن الطرق الإبداعية التي يتّبعها لاختيار أفكارٍ جديدةٍ وتحويلها إلى تصميمٍ معاصر، يوضح الحميدي أن “الطرق كثيرة؛ وأحيانًا أستغرق أيّامًا في البحث والتتبّع داخل التراث اليمني لاستخراج فكرةٍ مناسبة. لكن الصعوبة لا تكمن في اختيار الفكرة نفسها، بل في تحويلها إلى تصميمٍ عصريٍّ وحديثٍ مع الحفاظ على هويتها ومكانتها التاريخية.”
تحديات كثيرة
يواجه الحميدي تحدّياتٍ كثيرة؛ تبدأ بصعوبة تحويل الأفكار والتصاميم إلى منتجاتٍ واقعية، وإذا وُجدت طريقة، تكمن الصعوبة غالبًا في تمويل التنفيذ.
أحيانًا يتواصل معه أشخاصٌ لتنفيذ هذه الأفكار وبيعها في الأسواق، وخاصةً لليمنيين المغتربين في الخارج الذين يسعدون بهذه المنتجات لأنها تذكّرهم بوطنهم. إلا أنه يلاحظ أن بعض من يسعون إلى الشراكة في تنفيذ التصاميم يستغلّون أفكاره لصالحهم بشكلٍ كبير.
ومن التحدّيات أيضًا عدم تبنّي الأفكار، خاصةً المتعلّقة بالتراث اليمني، من قبل الدولة والجهات المعنية، في وقتٍ كان من المفترض أن تكون وزارة الثقافة متبنّيةً لمثل هذه الأفكار وإقامة المعارض لها؛ إضافةً إلى سرقة أفكاره وتنفيذها دون علمه، خاصةً وأنه لا توجد جهةٌ تحفظ له حقوقه الفكرية.
يقول الحميدي إن اللحظة الفارقة في مسيرته كانت مع تصميم القلادة المستوحاة من حبّة البن، والتي حصدت أكثر من نصف مليون مشاهدة على فيسبوك. ومنذ ذلك الوقت، بدأ صدى أعماله يتّسع من قريته الصغيرة إلى مختلف المحافظات اليمنية، ثم إلى العالم العربي، خاصةً بعد نشر قناة ناشيونال جيوغرافيك أبوظبي صورةً له.
ومع انتقال الحميدي إلى السعودية، بدأ في ابتكار تصاميم مستوحاةٍ من التراث السعودي؛ أبرزها محفظةٌ مستوحاةٌ من الشماغ السعودي، تداولها مؤثّرون سعوديون على نطاقٍ واسع وحظي بمتابعين جدد، إضافةً إلى قلادةٍ مستوحاةٍ من الورد الخزامي، لتلقى تفاعلًا واسعًا على مختلف المنصّات، خاصةً لدى الإناث.
الذكاء الاصطناعي
كانت بداية عبدالرحمن الحميدي قبل انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي المتطوّرة، لكنه سرعان ما استغلّ الطفرة التي أحدثتها هذه التقنيات في تطوير أفكاره وتحسينها. ويصف تجربته قائلًا: “بلا شك أنها ساعدتني كثيرًا في إكمال تكوين الفكرة أو تحسينها؛ فأحيانًا تكون لدي فكرة لكنها ناقصة أو تحتاج بعض اللمسات، وهنا أستعين بالذكاء الاصطناعي ليكملها أو يفتح لي زوايا جديدة.”
رغم النجاحات التي حقّقها، يؤكّد الحميدي أن الطريق ما يزال طويلًا أمامه، مشيرًا إلى حلمه بتأسيس شركةٍ خاصةٍ للتصميم وإقامة معارض محلية ودولية تعرض أعماله، كما أنه يخطّط مستقبلًا لاستلهام الأفكار من التراث العربي في كل الدول العربية، ويخصّص أفكارًا لكل دولة؛ ولن يظلّ محصورًا بالتراث اليمني فقط.
ويختتم عبدالرحمن حديثه لـ”يمن ديلي نيوز” برسالةٍ يوجّهها إلى الشباب: “رسالتي أن اليمن غنيٌّ بالتراث والتاريخ، ويجب علينا الاعتزاز به والحفاظ عليه. الإبداع يحتاج إلى صبرٍ وتجريبٍ ومثابرة، وعلى الشباب أن يبدأوا بخطوةٍ صغيرةٍ ولا يلتفتوا للتقليل من شأن ما يقدّمونه”.
ويضيف دعوته إلى أن يطوّروا أنفسهم في مجال الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحديثة، وألا يحصروا أنفسهم في الأفكار التقليدية فحسب، بل ينطلقوا إلى ما هو أبعد من ذلك.
مرتبط
الوسوم
الفن التشكيلي
التراث اليمني
نسخ الرابط
تم نسخ الرابط
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news