استعراض خاص بـ”يمن ديلي نيوز”:
في ذات موقف أدبي، صرخ أبو عمرو بن العلاء البصري، وهو على رأس قائمة أشهر علماء اللغة العربية، وأحد مراجع القراءات المتعددة للقرآن الكريم، قائلاً: “ما لغة حمير بلغتنا ولا عربيتهم بعربيتنا”، وفي رواية أخرى “ما لغة حمير في أقاصي اليمن بلغتنا ولا عربيتهم كعربيتنا”، حتى ظلت أشهر العبارات في ميدان اللغة العربية، وتلقفها كثير من اللغويين إلى عصرنا الحديث، وكان أبرزهم الدكتور طه حسين، في كتابه “في الشعر الجاهلي”، وكررها حديثاً.
الدكتور طه حسين، والذي يعتبر عميد الأدب العربي الحديث، قال: “إن الشعر الجاهلي الذي بين أيدينا لا يمثل اللغة الجاهلية ولا يمكن أن يكون صحيحاً. ذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الذين يضيفون إليهم شيئاً كثيراً من الشعر الجاهلي قوماً ينتسبون إلى عرب اليمن، حيث إن لغة اليمن كانت لغة غير لغة القرآن، كما أن هذا الشعر لا يمثل حياة العرب في الجاهلية”، وقوله هذا شيء عجاب!
وقال أيضاً: “لم يكن لليمن في الجاهلية شعراء، وما كان ينبغي أن يكون لليمن في الجاهلية شعراء “!
لكن من خلال التتبع التاريخي والأدبي لعلوم أبي عمرو بن العلاء فإنه لم ينكر عربية اليمنية إنكاراً كاملاً بل قدح فيها قدحاً، كما قال الكسائي: “إن اللغة اليمانية فيها أشياء منكرة خارجة عن المقاييس”( ). بينما عاد طه حسين في نهاية المطاف إلى الاعتراف بعربية اللغة اليمنية واستشهد ببعضها.
وذهب الكثير من اللغويين القول إلى أن “لغات جنوب الجزيرة العربية، أو ما يسمى الآن باليمن وأجزاء من عُمان، تختلف عن اللغة العربية الشمالية التي انبثقت منها اللغة العربية، ولا تشترك معها إلا في كونها من اللغات السامية”.
حتى إن المؤرخ جواد علي اعتبر اللغة اليمنية غير لغة القرآن الكريم، وأن اليمنيين كانوا ينطقون بلهجات تختلف عن لهجة القرآن الكريم، وأن عربية أهل اليمن تختلف عن العربية التي يتم ندون بها اليوم( ).
دوافع التأليف
الصحفي والمؤلف توفيق السامعي، في كتابه “اللغة اليمنية في القرآن الكريم” كشف أن دافعه في تأليف هذا الكتاب كان الرد على هذه المقولات التي طار بها اللغويون في الآفاق، وتناقضوا بها في مواقف أخرى، ولم يقف فقط موقف المدافع عن عربية وأصول اللغة اليمنية، بل إنه مضى في تفنيد تلك المقولة تفنيداً علمياً، مستشهداً ومتتبعاً لكل ما يدحض تلك المقولة ويثبت عكسها بحق اللغة اليمنية.
عمد المؤلف إلى أهم مجال، وأنقى مصدر في علوم اللغة ألا وهو القرآن الكريم للتنقيب عن كل لفظ يمني ورد فيه، سواء من خلال ما ورد في النقوش اليمنية، أو ما ورد في الشعر عند العرب، أو ما جاء عند المفسرين للقرآن الكريم، وما ورد في كتب الأدب العربي منذ بداية عصر التدوين وحتى وقت متأخر، ومن استعمالات اللغة اليمنية المؤصلة إلى اليوم.
وذهب المؤلف السامعي إلى مناقشة مقاييس اللغة العربية التي وضعها اللغويون وأخرجوا لغة اليمن من تلك المقاييس في الاستشهاد اللغوي، ومن تلك المقاييس، والتي أوضحها أبو نصر الفارابي، بعد ذكره القبائل الفصحى: “ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.
وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا من لخم ولا من حزام لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان وأياد لمجاورتهم أهل بلاد الشام، وأكثرهم نصارى يتكلمون بالعبرانية، ولا من تغلب اليمن؛ فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر لمجاورتهم للقبط والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين بدؤوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم”( ).
من جانبين
ولو دققنا النظر في هذا القول وربطناه بما جرى في التاريخ اللغوي العربي فعلاً لرددناه من جانبين:
–
الأول: أن اللغويين، ومعهم علماء الأدب والنحو وغيرهم، يقولون: إن أصل منشأ اللغة العربية الفصحى من الشمال (الآرامية، والنبطية، والكنعانية…وغيرها)، والشمال أهل مدر ومدن ودول وحضارات، فكيف أخذ عنهم فصاحة اللغة أو تطورها ولا يؤخذ عن أهل الجنوب (اليمن) وهم أهل مدر ومدن وحضر؟! أليس هذا تناقضاً واضحاً يدحض مقياسهم في الوبر والمدر؟
وإذا كان المقصود بالشمال شمال الجزيرة العربية من القبائل المجاورة لتلك الحضارات (الثمودية، والصفوية، واللحيانية)؛ فقد كانت هذه الحضارات أيضاً حضارة مدر وقريبة من الفرس والروم على السواء، وكذلك فإن الجنوب (اليمن) أقرب مكاناً وأكثر احتكاكاً من ممالك الشمال، والأصل أن يؤخذ ويتم التثاقف من الأقرب فالأقرب لا من الأبعد فالأقرب، فقد مثلت هذه اللغات الثلاث حاجزاً بين الشمالية القصية والوسطى (الحجازية) والجنوبية.
كذلك لا يؤخذ عن هذه القبائل اللغة بسبب مقاييس الفارابي لمجاورة تلك القبائل ممالك غير عربية وهي أهل مدر، فكيف أجازوا الأخذ عنها ولم يجيزوا لأمثالها الأخذ عنها؟!.
كما إن القبائل الثمودية والصفوية واللحيانية هي قبائل جنوبية هاجرت إلى الشمال وحملت معها خطها المسندي ولغتها الجنوبية، وكثيرٌ من ألفاظها ولغاتها المستعملة مشتركة مع الجنوبية اليمنية.
– الثاني: أن النقوش اليمنية القديمة تحدثت عن أن أعراب الصحراء وأطراف وتخوم الدولة السبئية ومن بعدها الحميرية كانوا يخضعون للحكم في اليمن مع ما في ذلك من الاحتكاك والاختلاط.. فقد ذكرت نقوش الدولة السبئية المتأخرة والدولة الحميرية بالقول مثلاً: ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات وطود وأعرابهم.. وتكرر هذا القول وبصيغ مختلفة مرات عديدة في كثيرٍ من تلك النقوش، كما ذكرت بعض النقوش أن هؤلاء الأعراب كانوا يثورون بين الفترة والأخرى على المملكة فتقوم المملكة بتأديبهم وإخضاعهم مرة أخرى.
كما أن الكثير من النقوش تتحدث عن وصول حكم بعض الملوك إلى جنوب مصر والبحرين وحكموا كامل الجزيرة العربية، مما يعني دخول الجزيرة بكل أعرابها التي تعد أهل وبر وأخذ عنهم فصاحة اللغة، تحت حكم اليمن وكانت لغة الكتابة يومها هي اللغة اليمنية الجنوبية، كما أكدته النقوش التي عثر عليها في مناطق عديدة من المملكة العربية السعودية اليوم، فكيف تم الانسلاخ عنها والتنكر لها فيما بعد؟!
وإذا اقتصر أمر أخذ اللغة عن البدو أهل الصحراء، وعلة اللغويين الرئيسة أن أهل الصحراء لم يحتكوا بأمم ولا حضارات أخرى (أي منغلقين على أنفسهم) مما جعلهم محافظين على صفاء لغتهم، يعززون الرأي القائل بأن اللغة توقيفية وليست اصطلاحية.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: كيف لنا أن نعرف كيف جاءت اللغة لأهل الصحراء بتلك الدقة والتناسق والتناغم والترابط من فصاحة وبيان وغيرها من المظاهر الجمالية والتي انفردت بها عن سائر اللغات البشرية وهم غاية في التخلف والبداوة؟ وكيف نشأت عندهم وهم معزولون عن العالم ولم يعرفوا تدويناً ولا تلقيناً ولا استقراراً يمكنهم من دراسة اللغة وتطورها؟!، كما لم يؤثر عنهم تدوين أو نقوش عدى بضعة نقوش فقط هي: “نقش رقوش بالحجر” (مدائن صالح) المؤرخ في سنة 267م، “نقش أم جمال الأول” المؤرخ فيما بين 250-270م،
“نقش النمارة” المؤرخ في سنة 328م، “نقش سككا الأول” المؤرخ – تقريباً- في القرن الخامس الميلادي، “نقش سكاكا الثاني” المؤرخ – تقريباً – في القرن الخامس الميلادي، “نقش زبد” المؤرخ في سنة 512م، “نقش جبل أسيس” المؤرخ في سنة 528م، “نقش حران” المؤرخ في سنة 568، “نقش أم جمال
الثاني” المؤرخ – تقريباً- في القرن السادس الميلادي، مع أن هذه النقوش في تحليلها تعود لممالك مدنية مستقرة كمملكة كندة مثلاً، وهي أقرب إلى الخربشات منها إلى الحروف الواضحة، وقارئها إنما يتوهم حروفها توهماً لا تيقناً لعدم وضوح حروفها.
إقرار نبوي
وتعجب المؤلف من بعض هؤلاء اللغويين وهم يسردون هذه المقاييس ويحددون أفصح العرب، وفصاحة قريش، وهم يقرون بلغة اليمن متى ما وقعوا في مأزق من استدلال ولا يقرونها في مواطن كثيرة.
في حين أقر اللغويون حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم- باللهجة التهامية “ليس من امبر امصيام في امسفر”، وهي لهجة يمنية خالصة اقتصرت على تهامة اليمن.
وأم التعريفية التهامية هذه لا تزال تستخدم لنفس الشيء (التعريف) في بعض حضرموت وشبوة وعمران وصعدة وحجة والمحويت وتهامة وقليل منها في تعز الغربية.
ألفاظ يمنية
عمد المؤلف السامعي إلى الألفاظ التي يعتقد يمنيتها في القرآن الكريم سارداً لها ودارساً لها ومؤصلاً لمعانيها وتراكيبها ونحويتها واشتقاقاتها، وما تم الاستشهاد بها عند علماء العربية، وأجمل بعضها بالقول: لقد تتبعنا كثيراً من الألفاظ التي ذكرناها على أنها ألفاظ يمانية في القرآن الكريم فوجدناها تنتمي أكثر إلى المناطق الجنوبية الغربية في اليمن (قتبانية ثم أشعرية/معافرية) في صيغها وتراكيبها ودلالتها ومعانيها وأصالتها.
مثل بعض الألفاظ: “كُبّار”، “كِذّاب”، “زحزح”، “يرتع”، “عرجون”، “تثريب”، “خرّ”، “فتح”، “عقم”، “صبغ”، “مرج”، “صريم”، “تني”، “زهد”، “عقر”، “زجى”، “باد”، “تل”، “دعَّ”، “روح”، “سرح”، “رتق”، “فتق”، “ذرع”، “كرة”، “وقرا”، “قرّ”، “جرّ”، “قهر”، “نهر”، “ذرّ”، “ذرأ”، “بسل”، “نقر”، “ركن”، “ورقكم”، “الراسخون”، “منفوش”، “مطفف”، “دخل”، “صرح”، “أقنى”، “حمد”، “أصنام”، “نسيء/ نسي”، “حبك”، “يجبى”، “عسعس”، “قددا”، “أجاء”…إلخ.
خمسة مباحث
في مئتين وثمانٍ وثلاثين صفحة من القطع المتوسط، صدر هذا الكتاب عن الهيئة العامة للكتاب بصنعاء، وقُسِّم إلى خمسة مباحث رئيسة، تحت كل مبحث عناوين تفصيلية متعددة تغوص في عمق اللغة اليمنية ومقارنتها باللغة العربية الفصحى المتطورة، والتي تسمى (لغة قريش).
في المبحث الأول والذي حمل عنواناً “اللغة السامية اليمنية وعلاقتها باللغة العربية الفصحى” ناقش فيه المؤلف “الموطن الأول للساميين” سارداً بالأدلة أن اليمن والجزيرة العربية هي الموطن الأول للساميين، ثم عنواناً تعريفياً باللغات السامية، ماهي هذه اللغات، ومنها اليمنية الأم، ثم مناقشة آراء علماء العربية بهذه اللغات، والأسباب التي جعلت بعض اللغويين يقولون بعدم عربية اللغة اليمنية، ثم أورد تناول علماء التفسير للغة اليمنية واستشهادهم بها في كثير من مواضع القرآن الكريم، ثم قدم عنواناً “كيف تحل اليمنية إشكالات العربية الفصحى”.
أما في المبحث الثاني الذي ورد بعنوان “اللغة اليمنية واحتكاكها بالمحيط اللغوي والتجني عليها”، عمل الكاتب مقارنة تفصيلية للغة اليمنية بالعديد من اللغات السامية الأخرى كالكنعانية والآرامية والنبطية والحبشية، ثم أفرد عنواناً خاصاً بالألفاظ المشتركة بين جميع هذه اللغات السامية وعلى رأسها اليمنية.
أما في المبحث الثالث فقد أفرده الكاتب لـ”الخصائص المشتركة بين العربية ولغة النقوش اليمنية”، وأورد إحدى وثلاثين خاصية من الخصائص المتميزة بين اليمنية والعربية؛ في الجانب الصوتي والدلالي، والتركيب النحوي، والاشتقاق، والاقتراض، والتطابق، وغير ذلك من هذه الخصائص المتميزة.
خلاصة المؤلف
كان أهم باب في الكتاب الذي يعتبر خلاصة المؤلَّف هو الباب الرابع؛ حيث سرد فيه المؤلف كل الألفاظ اليمانية في القرآن الكريم، تحت عنوان “الألفاظ المشتركة بين العربية الفصحى واليمنية القديمة في القرآن”، وأوردها في جداول مختلفة، بلغ عدد الجذور اللغوية فيها أكثر من سبعمائة جذر لغوي، وما تفرع منها من اشتقاقات وتقاليب مختلفة بلغت أكثر من ثلاثة وعشرين ألف لفظ؛ أي حوالي ثلث ألفاظ القرآن الكريم.
أما المبحث الخامس فقد أفرده لمعنى السبعة الأحرف في القرآن الكريم، ويرى المؤلف خلاصتها أن اللغات السامية القديمة التي يتركب منها القرآن الكريم هي المقصودة بالسبعة الأحرف، وليس اللهجات السبع للقبائل العربية التي تحدث عنها اللغويون؛ كون أن القبائل العربية وقتها أكثر من مائة قبيلة ولا يمكن أن نسمي لكل قبيلة لغة بعينها.
لا يكاد مرجع من مراجع اللغة العربية والأدب العربي بشكل عام يخلو من إشارات فيها إلى اللغة اليمنية بشكل عام، وإلى كثير من اللهجات المتفرعة عنها، سواء كانت شواهد شعرية، أو ألفاظاً لغوية، أو دراسات صرفية، أو بنيويات أخرى، أشار إليها الكاتب في هذا المؤلف الذي يعتبر الأول من نوعه.
أخيراً
الكتاب الذي بين أيدينا، والذي صدره الأستاذ مطهر الإرياني في التقديم والثناء عليه، أصبح مرجعية عالمية للاستشهاد باللغة اليمنية في القرآن الكريم أو في المجال اللغوي العام، لا يمكن لباحث لغوي الاستغناء عنه، وقد أشار إليه الكثير من العلماء والباحثين في مختلف الجامعات العربية والدراسات اللغوية والإسلامية، والجميع يرجع إليه في تناول اللغة اليمنية في المصادر الإسلامية، ويكفي أن تحرك محرك البحث جوجل في البحث بعنوان “اللغة اليمنية في القرآن الكريم” لتظهر كل نتائج البحث فيه والباحثين الذين نهلوا منه واستشهدوا بما جاء فيه.
المؤرخ والشاعر واللغوي مطهر الإرياني كان قد أفرد للكتاب شهادة خاصة، في غير المقدمة التي بين أيدينا؛ لأنه كان يعتبر أنه سيقود إلى ثورة أصولية ضده، فاكتفى بالقول للكاتب “هذا المؤلف أهم مؤلف عربي في القرن الحادي والعشرين بحق”.
مرتبط
الوسوم
ملخص كتاب
اللغة اليمنية في القرآن الكريم
توفيق السامعي
نسخ الرابط
تم نسخ الرابط
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news