أحب مبدأ تشكل الشخصية المضادة لماضيها أو لتوقعات محيطها منها، هذا الصنف من القادمين إلى عالم الفكر والأدب بعد اهتزاز وجدانهم وحدوث صدمة وعي تقدح شرر التحول في أذهانهم. كان عبدالله القصيمي (1907 – 9 يناير 1996) السعودي صاحب البدايات الوهابية المتشددة أبرزهم في عصرنا، لكننا لا نفتش عن أمثاله وهم إما قد رحلوا عن عالمنا مثله أو يحيون بيننا لكن يأسهم من واقعنا الرث يدفعهم إلى الإحجام عن إشهار تمردهم، لأن الزمن العربي الممتد في ليله الحالك الرديئ لا يبخل بتكرار الظروف التي أنتجت القصيمي وغيره ممن في مستواه، وإن كان اسم القصيمي سيظل الأكثر شهرة في حضوره والأخطر بالنسبة لمناوئي أطروحاته.
لطالما تمنيت عندما كنت أتصفح أعمال القصيمي الفكرية لو أن حرفة الأدب أدركته وكتب لنا روايات ومذكرات وقصصًا وأعمالًا حرة يدس فيها فلسفته وتمرده بقالب سردي، كان سيترك أعمالًا أكثر تشويقًا من كتاباته الثائرة، وكان لليمنيين في القاهرة أثناء إقامته فيها حضور لافت حوله وتشير المعلومات إلى أنه سُجن في مصر بضغط من الحكومة اليمنية بسبب تأثر طلاب البعثة اليمنية في القاهرة بفكره لكثرة لقاءاته بهم.
تميز عبدالله القصيمي بالنزعة النقدية الصارمة كما يتضح حتى من عناوين كتبه مثل “هذه هي الأغلال” و”يكذبون كي يروا الإله جميلًا” و”الكون يحاكم الإله” بما فيها من مواجهة مباشرة مع الرؤى الفكرية والدينية المهادنة للسائد. آمن القصيمي بمركزية الحرية الفردية وواجب التمرد كطريق للإبداع والأخذ بالمعنى الخلاق للعصيان بمعنى الاختلاف المنتج الذي يبني الحضارة ولا يركن إلى ثوابت وكوابح تكبل الوعي والحركة.
أظن أن أكثر كتاب من كتب القصيمي يجعل العرب بكل أطيافهم واتجاهاتهم يتهربون من إعادة قراءاته هو كتابه الصادم من عنوانه والكاشف لمأزق عميق في صميم الشخصية العربية وبنيتها الثقافية، وأعني به كتابه “العرب ظاهرة صوتية”، وها نحن في أسوأ مرحلة من العجز واليأس وخذلان الذات والتشظي والانقسام المريع الذي يطال بلداننا، ونحن كما قال القصيمي أسرى الخطابة والمظاهر دون إنتاج معرفي أو إنجاز حضاري متين، بل لم نعد حتى كما رأى ظاهرة صوتية وانحدرنا إلى الأسوأ حتى فقدنا أصواتنا.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news