يشبه الاستيراد العشوائي ثقبًا أسود يبتلع مقدرات البلاد دون رحمة، ويمتص طاقاتها الإنتاجية واقتصادها الوطني حتى يكاد يتركه خاويًا. فهو ليس مجرد عملية تجارية قائمة على استيراد سلع تلبي حاجات الناس، بل أصبح وسيلة هدم صامتة تضرب في أعماق البنية الاقتصادية وتخرب ركائز التنمية المستدامة.
حين تُفتح الأسواق على مصراعيها دون تنظيم ولا تقنين ولا حماية للإنتاج المحلي، يتحول الاستيراد من أداة تنموية إلى سلاح ضد الاقتصاد الوطني. فالأسواق تمتلئ بمنتجات مستوردة قد تكون رديئة أو مكدسة بلا حاجة حقيقية لها، بينما العملة الصعبة تتسرب إلى الخارج، مخلفة وراءها عجزًا متفاقمًا في الميزان التجاري، وزيادة في الطلب على الدولار أو العملات الأجنبية، الأمر الذي يضغط على قيمة العملة المحلية ويقود إلى ارتفاع الأسعار والتضخم.
ولعل أخطر ما يفعله الاستيراد العشوائي هو ضرب الصناعات الوطنية في مقتل، لا سيما الناشئة أو الصغيرة منها. إذ كيف تستطيع المصانع المحلية الصمود أمام طوفان البضائع المستوردة منخفضة السعر بفعل دعم حكوماتها في بلدانها الأصلية أو بسبب تهريبها دون جمارك عادلة؟ أو بسبب رداءة جودتها، او انتهاء صلاحيتها، والنتيجة الطبيعية هي إغلاق المصانع أبوابها واحدًا تلو الآخر، وتسريح آلاف العمال، وفقدان الناس لوظائفهم، واتساع رقعة البطالة والفقر.
إن استمرار الاستيراد العشوائي يحرم البلاد من بناء منظومتها الإنتاجية المستقلة. فالدول لا تُبنى بالاستيراد، بل بالإنتاج والعمل والتصنيع. لا تنمية حقيقية دون صناعة وزراعة قوية. وكلما زادت فاتورة الواردات العشوائية تقلصت فرص الاستثمارات الصناعية المحلية، لأن السوق تغرق ببضائع منافسة لا تخضع للمعايير نفسها التي تُفرض على المنتج المحلي، فتغلق أمامه أبواب التطور.
الأخطر من ذلك هو أن الاستيراد العشوائي يخلق حالة من الارتهان الدائم للخارج، فتجد البلاد غير قادرة على تلبية أبسط احتياجاتها دون استيراد، ما يجعلها رهينة قرارات ومصالح الدول المصدرة والشركات العابرة للقارات، ويعرض الأمن الغذائي والدوائي والصناعي للخطر عند أي أزمة عالمية أو سياسية.
لذلك فإن وقف هذا النزيف يتطلب إرادة وطنية صلبة تبدأ من تنظيم الاستيراد وفق حاجات حقيقية، وتطبيق معايير الجودة والرسوم الجمركية العادلة، ومنع التهريب، ودعم الصناعات الوطنية لتكون قادرة على المنافسة، وتحفيز الاستثمار في التصنيع والزراعة والإنتاج المحلي. بذلك فقط نردم هذا الثقب الأسود، ونحمي اقتصادنا وكرامة وطننا من أن يبتلعه الاستيراد العشوائي إلى غير رجعة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news