في شهادة مؤثرة تفيض بالامتنان والاعتراف بالجميل، كشف الكاتب مروان الجوبعي عن أول موقف إنساني نبيل واجهه في بداية رحلة غربته، والتي بدأت قبل خمسة وعشرين عاماً في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية.
القصة، التي يحتفظ بها الجوبعي حية في ذاكرته ويحرص على سردها لكل من يلتقيه، تجسد قوة الأثر الذي يمكن أن يتركه عمل الخير في حياة الإنسان.
بدأت حكاية الجوبعي ورفاقه حين وصلوا إلى جدة غرباء بلا مال كافٍ لاستئجار فندق، ولا معارف يمكن اللجوء إليهم. اضطروا في الأيام الأولى إلى المبيت فوق سطح مقهى "باب شريف"، مستأجرين كراسي خشبية طويلة مقابل خمسة ريالات للكرسي الواحد، ينامون عليها بلا غطاء أو فراش، ويستيقظون بعد الظهر وقد أرهقتهم خشونة الكراسي وقسوة الوضع. أسبوع كامل مرّ وهم على هذا الحال، يواجهون قسوة الغربة وصعوبة البدء.
هنا يبرز دور سفيان، الذي التقاه الجوبعي ورفاقه صدفةً. ففي أحد الأيام، وصل سفيان إلى المقهى مبكراً ولاحظ إرهاقهم وتأخرهم في الاستيقاظ، تساءل عن سبب مبيتهم في المقهى، وحين شرح له الجوبعي ورفاقه وضعهم، كان رد فعل سفيان فصلاً من النبل والكرم.
لم يتردد سفيان في تقديم يد العون؛ فتعاطف معهم وأخذهم مباشرة إلى غرفته التي يستأجرها بالقرب من باب شريف، قائلاً لهم بوضوح: "هذه الغرفة غرفتكم". ثم غادر لينام مع خاله في مكان آخر، لأن الغرفة لم تكن تتسع لأكثر من ثلاثة أشخاص، تاركاً لهم مأوىً كريماً في أحلك ظروفهم.
لم يتوقف كرم سفيان عند هذا الحد .. فمنذ اليوم الثاني، بدأ في البحث عن فرص عمل للشباب، طارقاً أبواب معارفه وأصدقائه دون كلل، متصرفاً وكأنه المسؤول الأول عنهم رغم أنه لم يكن يعرفهم سوى لساعات قليلة، وبعد أيام، عثر سفيان على فرصة عمل واحدة، آثر رفاق الجوبعي أن يحصل عليها الأخير لكونه كان الأشد إفلاساً بينهم.
يصف الجوبعي هذه الفرصة، رغم كونها موسمية ومؤقتة، بأنها كانت بمثابة "الانطلاقة الأولى للاعتماد على الذات والخروج من تابوت الاتكالية". ويعتبرها الخطوة الأولى في حياته التي غمرته بالإحساس بالمسؤولية وعلمته الإصرار على الكفاح، مؤكداً أنه لم يتوقف عن العمل منذ ذلك الحين على مدار خمسة وعشرين عاماً.
واصل الجوبعي رحلته، متنقلاً بين المدينة المنورة حيث قضى سبع سنوات، ثم الدمام لثمانية عشر عاماً، محافظاً على تواصله مع سفيان خلال فترة إقامته في المدينة. إلا أن سفيان اختفى عن الأنظار في الفترة الأخيرة، ولم يتمكن الجوبعي من الوصول إليه منذ ثمانية عشر عاماً.
على الرغم من غياب سفيان الجسدي، يؤكد مروان الجوبعي أن موقفه النبيل لم يغب عن ذهنه لحظة واحدة. "حينما وصلت الغربة ووجدتها موحشة ومظلمة، كان موقفه هذا بمثابة شمعة أضاءت لي الطريق، وكان درسًا بليغًا تلقيته من مدرسة الحياة"، يقول الجوبعي، مضيفاً: "يمكن أن يرحل الإنسان.. يمكن له أن يغيب، أن يموت، لكن المواقف باقية لا ترحل ولا تغيب ولا تموت مع صاحبها."
يختتم الجوبعي قصته بتأكيد أن الغربة، التي كانت موحشة يوماً ما، قد تحولت اليوم بفضل أمثال سفيان وامثابه إلى "وطن بديل".
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news